ثم الكسب على مراتب فمقدار ما لا بد لكل أحد منه يعني ما يقيم به صلبه يفترض على كل أحد اكتسابه غنيا أو فقيرا ; لأنه لا يتوصل إلى إقامة الفرائض إلا به وما يتوصل به إلى إقامة الفرائض يكون فرضا فإن لم يكتسب زيادة على ذلك ، فهو في سعة من ذلك لقوله عليه السلام { } { من أصبح آمنا في سربه معافى في بدنه ، وعنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها لابن خنيس رضي الله عنه فيما يعظه لقمة تسد بها جوعتك وخرقة تواري بها سوأتك فإن كان لك كن يكنك فحسن ، وإن كان لك دابة تركبها بخ بخ } وقال عليه السلام
وهذا إذا لم يكن عليه دين فإن كان عليه دين فرض عليه ; لأن قضاء الدين مستحق عليه إن كان غنيا قال عليه السلام { فالاكتساب بقدر ما يقضي به دينه } الدين مقضي وبالاكتساب يتوصل إليه
وكذا إن ، فإنه يفترض عليه الكسب بقدر كفايتهم غنيا ; لأن الإنفاق على زوجته مستحق عليه قال الله تعالى { كان له عيال من زوجة وأولاد صغار أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم } معناه فأنفقوا عليهن من وجدكم وهكذا في قراءة رضي الله عنه وقال جل وعلا { ابن مسعود وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن } الآية ، وقال عز وجل { ومن قدر عليه رزقه فلينفق } الآية .
وإنما يتوصل إلى إيفاء هذا المستحق بالكسب وقال صلى الله عليه وسلم { } فالتحرز عن ارتكاب المآثم فرض ، وقال عليه السلام { كفى بالمرء إثما أن يضيع من يمون } ، ولكن هذا في الفرضية دون الأول لقوله عليه السلام { إن لنفسك عليك حقا ، وإن لأهلك عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه } فإن اكتسب زيادة على ذلك ما يدخره لنفسه وعياله ، فهو في سعة من ذلك لما روي { ثم من تعول أن النبي صلى الله عليه وسلم ادخر قوت عياله لسنة بعد ما كان منهيا عن ذلك } على ما روي { رضي الله عنه أنفق لبلال ولا تخش من ذي العرش إقلالا بلالا } والمتأخر يكون ناسخا للمتقدم فإن أنه صلى الله عليه وسلم قال ، فإنه يفترض عليه الكسب بقدر كفايتهما ; لأن نفقتهما مستحقة عليه بعد عسرته إذا كان متمكنا من الكسب { كان له أبوان كبيران معسران } يعني اكتسب وأنفق عليهما ، وقال تعالى { قال عليه السلام للرجل الذي أتاه وقال أريد الجهاد معك ألك أبوان قال نعم قال عليه السلام [ ص: 257 ] ارجع ففيهما فجاهد وصاحبهما في الدنيا معروفا } وليس من المصاحبة بالمعروف تركهما يموتان جوعا مع قدرته على الكسب ، ولكن هذا دون ما سبق في الفرضية لما روي { } الحديث فأما غير الوالدين من ذوي الرحم المحرم فلا يفترض على المرء الكسب للإنفاق عليهم ; لأنه لا تستحق نفقتهم عليه إلا باعتبار صفة اليسار ، ولكنه يندب إلى الكسب والإنفاق عليهم لما فيه من صلة الرحم ، وهو مندوب إليه في الشرع قال عليه السلام لا خير فيمن لا يحب المال فيصل به رحمه ويكرم به ضيفه ويبر به صديقه { أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم معي دينار فقال عليه السلام أنفقه على نفسك فقال معي آخر فقال عليه السلام أنفقه على عيالك قال معي آخر قال عليه السلام أنفقه على والديك رضي الله عنه وأرغب لك رغبة من المال لعمرو بن العاص } . . . الحديث ، إلى أن قال : { وقال عليه السلام } نعم المال الصالح للرجل الصالح يصل به رحمه حرام لقوله عليه السلام { وقطيعة الرحم } وقال عليه الصلاة والسلام { ثلاث معلقات بالعرش النعمة والأمانة والرحم تقول النعمة : كفرت ولم أشكر ، وتقول الأمانة : ضيعت ولم أؤد ، وتقول الرحم : قطعت ولم أوصل } { صلة الرحم تزيد في العمر وقطيعة الرحم ترفع البركة من العمر } ، وفي ترك الإنفاق عليهم ما يؤدي إلى قطيعة الرحم فيندب إلى الاكتساب للإنفاق عليهم وبعد ذلك الأمر موسع عليه فإن شاء اكتسب وجمع المال ، وإن شاء أبى . قال عليه السلام فيما يؤثر عن ربه عز وجل أنا الرحمن وهي الرحم شققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته
; لأن السلف رحمهم الله منهم من جمع المال ومنهم من لم يفعل فعرفنا أن كلا الفريقين مباح أما الجمع فلما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم { } فدل أن من طلب الدنيا حلالا متعففا لقي الله تعالى ووجهه كالقمر ليلة البدر ، ومن طلبها مفاخرا مكاثرا لقي الله تعالى ، وهو عليه غضبان مباح وكان عليه السلام يقول في دعائه { جمع المال على طريق التعفف } وكان كذا ، فقد اجتمع له أربعون شاة حلوبة وفدك وسهم اللهم اجعل أوسع رزقي عند كبر سني وانقضاء عمري بخيبر في آخر عمره .
وأما فطريق مباح أيضا لحديث الامتناع من جمع المال رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { عائشة آدم واديان من ذهب لتمنى إليهما ثالثا ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب } وقيل هذا كان مما يتلى في القرآن في سورة يونس من الركوع الثاني أو الثالث ثم انتسخت تلاوته وبقيت روايته وقال عليه السلام { لو كان لابن تبا للمال } ، وفي رواية لصاحب [ ص: 258 ] الذهب والفضة وقال صلى الله عليه وسلم { } يعني يتصدق من كل جانب وقال عليه السلام { هلك المكثرون إلا من قال بماله هكذا وهكذا } ففي هذا بيان أن الامتناع من الجمع أسلم ، ولا عيب على من اختار طريق السلامة ثم بين يقول الشيطان : لن ينجو مني صاحب المال من إحدى ثلاث : إما أن أزينه في عينه فيجمعه من غير حله ، وإما أن أحقره في عينه فيعطي في غير حله ، وإما أن أحببه إليه فيمنع حق الله تعالى منه رحمه الله أن الكسب فيه معنى المعاونة على القرب والطاعات أي كسب كان حتى قال : إن كسب فتال الحبال ومتخذ الكيزان والجرار وكسب الحركة فيه معاونة على الطاعات والقرب ، فإنه لا يتمكن من أداء الصلاة إلا بالطهارة ويحتاج ذلك إلى كوز يستقى به الماء وإلى دلو ورشاء ينزح به الماء ويحتاج إلى ستر العورة لأداء الصلاة ، وإنما يتمكن من ذلك بعمل الحركة فعرفنا أن ذلك كله من أسباب التعاون على إقامة الطاعة وإليه أشار محمد رضي الله عنه في قوله لا تسبوا الدنيا فنعم مطية المؤمن الدنيا إلى الآخرة ، وقال علي رضي الله عنه حين سأله رجل عن أفضل الأعمال بعد الإيمان فقال : الصلاة وأكل الخبز فنظر إليه الرجل كالمتعجب فقال : لولا الخبز ما عبد الله تعالى يعني بأكل الخبز يقيم صلبه فيتمكن من إقامة الطاعة . أبو ذر
ثم المذهب عند جمهور الفقهاء رحمهم الله أن المكاسب كلها في الإباحة سواء ، وقال بعض المتقشفة ما يرجع إلى الدناءة من المكاسب في عرف الناس لا يسع الإقدام عليه إلا عند الضرورة لقوله عليه السلام { } وقال عليه السلام { ليس للمؤمن أن يذل نفسه } والسفساف ما يدني المرء ويبخسه إن الله تعالى يحب معالي الأمور ويبغض سفسافها
وحجتنا في ذلك قوله عليه السلام { } وقال عليه السلام { إن من الذنوب ذنوبا لا يكفرها الصوم ، ولا الصلاة قيل : فما يكفرها يا رسول الله قال الهموم في طلب المعيشة طلب الحلال كمقارعة الأبطال ، ومن بات وانيا من طلب الحلال مات مغفورا له } وقال عليه السلام { أفضل الأعمال الاكتساب للإنفاق على العيال } من غير تفصيل بين أنواع الكسب ، ولو لم يكن فيه سوى التعفف والاستغناء عن السؤال لكان مندوبا إليه ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال { } أي يبقى في ذله إلى يوم القيامة { السؤال آخر كسب العبد وقال عليه السلام رضي الله عنه أو لغيره مكسبة فيها نقص المرتبة خير لك من أن تسأل الناس أعطوك أو منعوك لحكيم بن حزام } ثم المذمة في عرف الناس ليست للكسب بل للخيانة وخلف الوعد واليمين الكاذبة ومعنى البخل