كتاب الرضاع قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة فخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله إملاء يوم الخميس الثاني عشر من جمادى الآخرة سنة سبع وسبعين وأربعمائة
اختلف الناس في كتاب الرضاع هل هو من تصنيف محمد رحمه الله أم لا ؟ قال بعضهم : هو ليس من تصنيف محمد رحمه الله وإنما صنفه بعض أصحابه ونسبه إليه ليروج به ، وفي ألفاظه ما يدل على ذلك ، فقد ذكر في حرمة المصاهرة سبب الوطء الحرام قال : والتنزه عنه أفضل إن شاء الله تعالى ومحمد رحمه الله ما كان يصحح الجواب في مصنفاته في الأحكام خصوصا فيما فيه نص من الكتاب والسنة فعرفنا أنه ليس من تصنيفاته ، ولهذا لم يذكره الجليل في المختصر وقال أكثرهم : وهو من تصنيفاته ، ولكنه من أوائل تصنيفاته ولكل داخل دهشة . الحاكم
وقد بينا فيما سبق أنه كان صنف الكتب مرة ثم أعادها إلا قليلا منها فهذا الكتاب من ذلك ; لأنه حين أعاد اكتفى في أحكام الرضاع بما أورد في كتاب النكاح واكتفى رضي الله عنه أيضا بذلك فلم يفرد هذا الكتاب في مختصره قال رضي الله عنه : ولكني لما فرغت من إملاء شرح المختصر بحسب الإمكان والطاقة عند تحقق الحاجة والفاقة وأتبعته بإملاء كتاب الكسب رأيت الصواب اتباع ذلك بإملاء شرح هذا الكتاب ففيه بعض ما لا بد من معرفته وما يحتاج فيه إلى شرح وبيان ثم إنه بدأ الكتاب ببيان الحاكم فقال المحرمات من النساء
أسباب حرمة النساء ثلاثة النسب والصهر والرضاع ، وذلك يتلى في قوله تعالى { والمحرمات بالنسب سبعة حرمت عليكم أمهاتكم } إلى قوله تعالى { وبنات الأخت }
والمصاهرة كالنسب في ثبوت الحرمة المؤبدة بها بطريق الإكرام ، فإن الله تعالى جمع بينهما قال { وهو [ ص: 288 ] الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا }
، وذلك يتلى في القرآن قال الله تعالى { والمحرمات بالمصاهرة أربع وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن } وقال تعالى { وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم } وقال عز وجل { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم }
ثم حرم بالرضاع مثل هذا العدد الذي حرم بالنسب والصهر وثبوت منصوص في قوله تعالى { الحرمة بسبب الرضاع وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة } وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله { } وزعم بعض العلماء رحمهم الله أن طريق معرفة هذه المحرمات النص خاصة ، ولو خلينا والقياس لم نقل بشيء من هذه المحرمات ، فإن الإناث خلقن للذكور ، وهذا محل النكاح باعتبار أنهن مكان حرث للولد وأن التناسل بين الذكور والإناث وبهذه الأسباب لا يختل هذا المعنى والأصح أن نقول هذه المحرمات ثابتة بالنص وهي مستحسنة في عقول العقلاء أيضا عند رفض العادات السيئة والعاقل يحرص على حماية أمه وابنته وأخته ودفع العار والشنار عنهما ، كما يحرص على دفع ذلك عن نفسه ، والمقصود بالنكاح الاستعراض للوطء والعاقل يأنف من ذلك الفعل في أمه وابنته كما يأنف من ذلك في نفسه . يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب
( ألا ترى ) أن الله تعالى أشار إلى ذلك في الأخبار عن الذين لم يعرفوا الشريعة وكانوا عقلاء فقال جل وعلا { وإذا بشر أحدهم بالأنثى } إلى قوله تعالى { أيمسكه على هون أم يدسه في التراب } ، فإذا كان يأنف من ذلك كيف يستجيز من نفسه أن يباشر فعله وكذا يأنف من ذلك في حق امرأة أبيه التي ربته وهي بمنزلة أمه باعتبار التربية ، وفي حق امرأة ابنه التي هي له بمنزلة الولد ، والمتولد منها يكون ولدا له ، وكذلك يأنف من ذلك باعتبار الرضاع الذي هو أحد سببي الكون ، فإن النشر والتسوية يحصل به ، ولهذا كانوا في الجاهلية يعظمون أمر الرضاع ، كما يعظمون أمر النسب ثم بسبب النسب تتمكن بينهما العصبية أو شبه العصبية وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله { أولادنا أكبادنا } وقال صلى الله عليه وسلم { بضعة مني إلا ما كان فاطمة لآدم صلوات الله عليه } ، وقد كان ذلك بطريق الكرامة لكون الأصل الأول واحدا كما قال تعالى { إن يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة } ثم شبهة العصبية تعتبر بحقيقة العصبية ، وفي المصاهرة شبهة العصبية باعتبار الواسطة ، وفي الرضاعة شبهة العصبية باعتبار البنوة وإليه أشار صلى الله عليه وسلم في قوله { } ثم بين نوعا آخر من الحرمة فقال ، ومن [ ص: 289 ] ذلك ما حرم بالكفر قال الله تعالى { الرضاع ما أنبت اللحم وأنشز العظم ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } ، وهذا في المعنى ليس نظير ما تقدم فتلك حرمة مؤبدة وهذه حرمة مؤقتة إلى غاية هي الإسلام ، وهذا النوع من الحرمة سبعة أيضا :
أحدهما : إذا وهي أن يفارقها ، وكذلك ما في معنى الأخت كالعمة والخالة وبنت الأخ وبنت الأخت ثبت ذلك بقوله تعالى { كان تحت الرجل امرأة فأختها محرمة عليه إلى غاية وأن تجمعوا بين الأختين } وبقوله صلى الله عليه وسلم { } . لا تنكح المرأة على عمتها ، ولا على خالتها ، ولا على ابنة أختها ، ولا على ابنة أخيها
والثانية : إذا فالخامسة محرمة عليه إلى أن يفارق إحدى الأربع ثبت ذلك بقوله تعالى { كان تحته أربعة نسوة مثنى وثلاث ورباع } وبإجماع الجمهور من علماء المسلمين رحمهم الله على حرمة الجمع بين أكثر من أربع نسوة .
والثالثة : إذا كان تحته حرة فالأمة محرمة عليه إلى غاية وهي أن يفارق الحرة ثبت ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم { } وهي حرمة ثابتة شرعا عندنا لا لحق المرأة حتى إنها وإن رضيت لم تحل إلا على قول لا تنكح الأمة على الحرة رضي الله عنه ، فإنه يقول إذا رضيت الحرة جاز وذكر في الكتاب هذا القول منسوبا إلى بعض العلماء ومراده مالك رضي الله عنه . مالك
والرابعة : إذا وهي انقضاء عدة هذه باعتبار أن العدة حق من حقوق النكاح كأصل النكاح في إيجاب الحرمة كما يجعل الرضاع بمنزلة النسب في إيجاب الحرمة . وطئ امرأة بشبهة فأختها محرمة عليه إلى غاية
والخامسة : منكوحة الغير أو معتدة الغير ، فإنها محرمة عليه إلى غاية وهي انقضاء العدة ثبت ذلك بقوله تعالى { والمحصنات من النساء } أي أخوات الأزواج وبقوله عز وجل { ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله } .
والسادسة : مكاتبة الرجل ، فإنها محرمة عليه لا يطؤها بالملك إلى أن تعتق بالأداء فينكحها أو تعجز فيطأها بالملك .
والسابعة : المشركة فهي محرمة على المؤمن .
وزعم رضي الله عنه أن مالك لا يجوز لمشرك ولا للمسلم فكان يقول ببطلان أنكحة المشركين أهل الشرك منهم ، وهو باطل عندنا ، فإن الله تعالى قال { نكاح المشركة وامرأته حمالة الحطب } ، فلو لم يكن بينهما نكاح لما سماها امرأته وقال صلى الله عليه وسلم { ولدت من نكاح ولم أولد من سفاح } ، ولم يفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أحد ممن أسلم وبين زوجته حين أسلمت معه ، ولم يأمرهما بتجديد العقد بل أقرهما على النكاح فعرفنا أن للأنكحة فيما بينهم حكم الصحة ، وإن نكاح المشركة حرام على المسلم خاصة لخبثها وكرامة المسلم ففيه معنى الصيانة له عن فراش الخبيثة وبالنكاح ثبت الازدواج ، وإنما يتحقق ذلك [ ص: 290 ] بين المتساويين أو متقاربي الحال ، ولا مساواة بين المشركة والمسلم فكانت محرمة عليه إلى أن يؤمن .
( قال ثم إن الله تعالى أحل نساء أهل الكتاب في قوله عز وجل { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } ) فأحل أهل الكتاب من جملة أهل الكفر وترك باقي أهل الكفر على التحريم في قوله تعالى { نساء ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } ، ومن الناس من قال هذا الكلام مختل ، فإن اسم المشركة لا يتناول الكتابية حتى يقال إنها خرجت من هذه الحرمة بالنص .
( ألا ترى ) أن الله تعالى عطف المشركين على أهل الكتاب ؟ فقال عز وجل { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين } ، وإنما يعطف الشيء على غيره ، ولكنا نقول ما ذكره الكتاب صحيح ، فإن أهل الكتاب في الحقيقة مشركون وإن كانوا يدعون التوحيد ، قال الله تعالى { وقالت اليهود عزير ابن الله } إلى قوله عز وجل { سبحانه عما يشركون } وعطف المشركين على أهل الكتاب لا يدل على أنهم غير مشركين قال الله تعالى { والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا } فقد عطف أهل الشرك على المجوس والمجوس مشركون تتناولهم الجهة الثابتة في قوله عز وجل { ولا تنكحوا المشركات } فعرفنا أن أهل الكتاب خصوا من هذه الحرمة بالنص وكان رضي الله عنه لا يخص أهل الكتاب من هذه الحرمة وكان يقول معنى قوله تعالى { ابن عمر والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } اللاتي أسلمن من أهل الكتاب ولسنا نأخذ بهذا فعلى هذا التأويل لا يبقى للآية فائدة ; لأن نكاح المسلمة حلال للمسلم سواء كانت كتابية وأسلمت أو لم تكن ، وإنما المراد بقوله تعالى { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } العفائف منهن أو الحرائر منهن والله أعلم بالصواب .