باب تفسير وهو ما نصه الله تعالى في كتابه وما حرمته السنة وأجمع عليه المسلمون فأما ما نص الله تعالى في كتابه فتحريم الأم وحرمت السنة والإجماع أم الأم وأم الأب ، وإن بعدت من قبل الأمهات كانت أو من قبل الآباء وزعم بعض مشايخنا رحمهم الله أن ثبوت حرمة الجدات بالنص أيضا فاسم الأم يتناول الجدات قال الله تعالى { التحريم بالنسب يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة } فدل على أن الجدة أم ، وإن الجواب ما ذكره في الكتاب وهو أصح ، فإن اسم الأم يتناول الجدة مجازا حتى ينفي عنها هذا الاسم بإثبات غيره فيقال : إنها جدة وليست بأم ، ولا [ ص: 291 ] يجمع بين الحقيقة والمجاز من أداتي لفظ واحد فإن قيل : لا كذلك فمن أصول علمائنا رحمهم الله الجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ واحد حتى إذا كان حانثا في يمينه ، وهذا اللفظ للنهار حقيقة ويتناول الليل مجازا وقال في السير الكبير إذا حلف أن لا يضع قدمه في دار فلان فدخلها حافيا أو منتعلا ماشيا أو راكبا دخل في الأمان بنو بنيه مع بنيه لصلبه والاسم لبنيه حقيقة ولبني بنيه مجاز قلنا : لا كذلك فالحقيقة استعمال الشيء في موضعه والمجاز استعارة الشيء واستعماله في غير ما وضع له ولا يتصور أن يكون اللفظ الواحد مستعملا في موضعه ومستعارا كما لا يتصور أن يكون الثوب على اللابس ملكا له وعارية في يده في حالة واحدة فأما إذا استأمن الحربي على بنيه فذلك عبارة عن الدخول علم ذلك بالعرف ثم يحنث في الوجوه كلها ; لأنه دخول لا لاعتبار الحقيقة والمجاز ، وكذلك اليوم فيما لا يمتد عبارة عن الوقت الذي هو ظرف له فيحنث في الوجهين لوجود وقت القدوم لا للحقيقة والمجاز ، فلهذا قلنا إن فيما يمتد يحمل ذكر اليوم على بياض النهار ليكون معيارا له ، وفي مسألة الأمان روايتان كلاهما في السير . حلف لا يضع قدمه في دار فلان
وفي القياس لا يدخل بنو الابن ، وإنما أدخلهم استحسانا ; لأن أمر الأمان مبني على التوسع وأدنى الشبه يكفي لإثباته والسبب الداعي له إلى طلب هذا الأمان شفقته عليهم وشفقته على بنيهم كشفقته على بنيه ، فلهذا أدخلهم في إحدى الروايتين ، فإذا ثبت أنه لا يراد باللفظ الحقيقة والمجاز في حالة واحدة عرفنا أن حرمة الجدات ثبتت بالسنة والإجماع ، كما أشار إليه وعلى هذا حرمة الابنة ثابتة بالنص وحرمة ابنة البنت وابنة الابن ثابتة بالإجماع والسنة
قال وحرم الله تعالى الأخوات وبنات الأخت وبنات الأخ بالنسب وحرمت السنة أسفل من ذلك من ولد الأخت والأخ إلى أسفل الدرجة وحرم الله تعالى العمة بالنسب وحرمت السنة والإجماع أم العمة ، وإن كانت أمها أم الأب أو غير أم الأب ; لأن العمة إن كانت لأب وأم أو لأم ، فإن العمة أمها أم الأب وهي محرمة عليه ، وإن كانت العمة لأب فأمها امرأة أب الأب وهي محرمة بقوله تعالى { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء } وأقامت السنة امرأة الجد مقام امرأة الأب ، وعمة العمة حرام إذا كانت العمة لأب وأم أو لأب ; لأنها أخت أبي الأب ; لأن العمة بمنزلة الأم ، كما أن العم بمنزلة الأب قال الله تعالى { قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل } ، وهو كان عما وقال صلى الله عليه وسلم { } يعني لا تؤذوني في بقية آبائي رضي الله عنه ، فإذا كانت العمة بمنزلة الأم أو الأب فعمة العمة [ ص: 292 ] بمنزلة عمة الأب ، فإذا كانت العمة أخت الأب لأم فعمة عمتها ليست بمحرمة ; لأن أباها رجل أجنبي ليس بذي رحم محرم ، وحرم الله تعالى الخالة وحرمت السنة والإجماع أم الخالة ; لأن أم الخالة هي الجدة أم الأم ، وإن كانت لأب فأم الخالة امرأة أب الأم والجدة بالسنة قائمة مقام الأب فامرأة الجد أبي الأم كامرأة الأب في الحرمة وخالة الخالة محرمة عليه إذا كانت الخالة لأب وأم أو لأب ، كما بينا في عمة العمة فإن كانت لأب الخالة فخالتها تكون أجنبية عنها على نحو ما ذكرنا في عمة العمة فأما ابنة العم وابنة العمة وابنة الخالة وابنة الخال فمن جملة المحللات ، وذلك يتلى في سورة الأحزاب قال الله تعالى { العباس وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك } ويتلى في سورة النساء أيضا ، فإن الله تعالى بين المحرمات ثم قال { وأحل لكم ما وراء ذلكم } فما تناوله نص التحريم تناوله هذا النص وقوله تعالى { وأحل لكم ما وراء ذلكم } .
ومنكوحة الأب من جملة المحرمات على الابن وعلى ابن الابن ، وإن سفل باعتبار السنة والإجماع ويستوي إن دخل بها أو لم يدخل بها ; لأنها مبهمة في كتاب الله وقال رضي الله عنهما أبهموا ما أبهمه الله تعالى ، وكذلك أمهات النساء فأما الربائب فلا يحرمن إلا بالدخول بالأم قال الله تعالى { ابن عباس وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن } والحجر ليس بشرط ، وذلك ثابت في قوله تعالى { فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم } وذكر الحجر في قوله { وربائبكم اللاتي في حجوركم } بطريق العادة لا أن يكون الحجر مؤثرا في هذه الحرمة .
( ألا ترى ) أن فيجوز ذلك ; لأن أمها لم تكن في نكاحه ، وإن كانت هي في حجره فعرفنا أنه لا تأثير للحجر وأنه مذكور على طريق العادة بمنزلة قوله تعالى { الإنسان قد يكون في بيته امرأة لها ولد يعولها وينفق عليها ثم يتزوج الابنة إذا كبرت ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } والمباشرة حرام على المعتكف في المسجد كان أو في غير المسجد ، وذكر المساجد للعادة إذ الاعتكاف في العادة يكون في المساجد .
بالنص وزعم بعض أهل العلم أن وحليلة الابن من النسب حرام لا تكون حراما للقيد المذكور في قوله تعالى { حليلة الابن من الرضاعة وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم } ولكن نقول حليلة الابن من الرضاعة كحليلة الابن من النسب ثبت بقوله صلى الله عليه وسلم { } والمراد بقوله عز وجل من أصلابكم يعني حرمة حليلة الابن من التبني ، فقد كان التبني معروفا فيما بين أهل الجاهلية وكان مشروعا في الابتداء ثم نسخه الله تعالى بقوله { يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ادعوهم لآبائهم } ، { وتبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 293 ] زيد بن حارثة ثم تزوج زينب امرأة زيد بعد ما فارقها } ، وفيه نزل قوله تعالى { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله } فالمراد بالتقييد نفي حرمة ثم حليلة الابن من التبني بالسنة والإجماع تحريم حليلة ابن الابن ، وإن سفل
فإن قيل : كيف ثبت ذلك مع قوله عز وجل { الذين من أصلابكم } ، فإن ابن ابنه ليس من صلبه ؟
قلنا لا كذلك بل يتناوله هذا الاسم باعتبار أن أصله من صلبه قال الله تعالى { هو الذي خلقكم من تراب } والمخلوق من التراب هو الأصل والله أعلم
وما سوى هذا من المسائل المذكورة إلى تفسير لبن الفحل قد تقدم بيانه في كتاب النكاح وبعض هذه الفصول قد تقدم بيانه هناك أيضا ، فلهذا لم تستقص هنا والله أعلم بالصواب