[ ص: 300 ] الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد
عن رضي الله عنه: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملوا ملة، فقالوا له: حدثنا فنزلت، وإيقاع اسم الله مبتدأ وبناء "نزل" عليه فيه: تفخيم لأحسن الحديث، ورفع منه، واستشهاد على حسنه، وتأكيد لاستناده إلى الله وأنه من عنده، وأن مثله لا يجوز أن يصدر إلا عنه، وتنبيه على أنه وحي معجز مباين لسائر الأحاديث. و "كتابا" بدل من أحسن الحديث، ويحتمل أن يكون حالا منه، "متشابها" مطلق في مشابهة بعضه بعضا، فكان متناولا لتشابه معانيه في الصحة والإحكام، والبناء على الحق والصدق ومنفعة الخلق، وتناسب ألفاظه وتناصفها في التخير والإصابة، وتجاوب نظمه وتأليفه في الإعجاز والتبكيت، ويجوز أن يكون "مثاني" بيانا لكونه متشابها; لأن القصص المكررة لا تكون إلا متشابهة. والمثاني: جمع مثنى بمعنى مردد مكرر، ولما ثنى من قصصه وأنبائه، وأحكامه، وأوامره ونواهيه، ووعده ووعيده، ومواعظه. وقيل: لأنه يثني في التلاوة، فلا يمل كما جاء في وصفه لا يتفه ولا يتشان ولا يخلق على كثرة الرد. ويجوز أن يكون جمع مثنى مفعل، من التثنية بمعنى التكرير، والإعادة كما كان قوله تعالى: ابن مسعود ثم ارجع البصر كرتين [الملك: 4] بمعنى كرة بعد كرة، وكذلك: لبيك وسعديك، وحنانيك. فإن قلت: كيف وصف الواحد بالجمع؟ قلت: إنما صح ذلك لأن الكتاب جملة ذات تفاصيل، وتفاصيل الشيء هي جملته لا غير، ألا تراك تقول: القرآن أسباع وأخماس، وسور وآيات ، وكذلك تقول: أقاصيص وأحكام ومواعظ مكررات، ونظيره قولك: الإنسان عظام وعروق وأعصاب، إلا أنك تركت الموصوف إلى الصفة، وأصله: كتابا متشابها فصولا مثاني، ويجوز أن يكون كقولك: برمة أعشار، وثوب أخلاق. ويجوز أن لا يكون مثاني صفة، ويكون منتصبا على التمييز من "متشابها"، كما تقول: رأيت رجلا حسنا شمائل، والمعنى: متشابهة مثانية. فإن قلت: ما فائدة التثنية والتكرير؟ قلت: النفوس أنفر شيء من حديث الوعظ والنصيحة، فما لم يكرر عليها عودا عن بدء لم [ ص: 301 ] يرسخ فيها ولم يعمل عمله، ومن ثم كانت عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكرر عليهم ما كان يغط به وينصح ثلاث مرات وسبعا; ليركزه في قلوبهم، ويغرسه في صدورهم. اقشعر الجلد: إذا تقبض تقبضا شديدا، وتركيبه من حروف القشع وهو الأديم اليابس، مضموما إليها حرف رابع وهو الراء; ليكون رباعيا ودالا على معنى زائد. يقال: اقشعر جلده من الخوف وقف شعره، وهو مثل في شدة الخوف، فيجوز أن يريد به الله سبحانه التمثيل، تصويرا لإفراط خشيتهم، وأن يريد التحقيق. والمعنى: أنهم إذا سمعوا بالقرآن وبآيات وعيده أصابتهم خشية تقشعر منها جلودهم، ثم إذا ذكروا الله ورحمته وجوده بالمغفرة لانت جلودهم وقلوبهم وزال عنها ما كان بها من الخشية والقشعريرة. فإن قلت: ما وجه تعديه "لان" بإلى؟ قلت: ضمن معنى فعل متعد بإلى، كأنه قيل: سكنت، أو اطمأنت إلى ذكر الله، لينة غير منقبضة، راجية غير خاشية. فإن قلت: لم اقتصر على ذكر الله من غير ذكر الرحمة؟ قلت: لأن أصل أمره الرحمة والرأفة، ورحمته هي سابقة غضبه، فلأصالة رحمته إذا ذكر لم يخطر بالبال قبل كل شيء من صفاته إلا كونه رؤوفا رحيما. فإن قلت: لم ذكرت الجلود وحدها أولا، ثم قرنت بها القلوب؟ ثانيا؟ قلت: إذا ذكرت الخشية التي محلها القلوب، فقد ذكرت القلوب، فكأنه قيل: تقشعر جلودهم من آيات الوعيد، وتخشى قلوبهم في أول وهلة، فإذا ذكروا الله ومبنى أمره على الرأفة والرحمة، استبدلوا بالخشية رجاء في قلوبهم، وبالقشعريرة لينا في جلودهم. "ذلك" إشارة إلى الكتاب، وهو هدى الله يهدي به يوفق به من يشاء، يعني: عباده المتقين، حتى يخشوا تلك الخشية ويرجوا ذلك الرجاء، كما قال: هدى للمتقين [البقرة: 2]. ومن يضلل الله ومن يخذله من الفساق والفجرة فما له من هاد ، أو ذلك الكائن من الخشية والرجاء هدى الله، أي: أثر هداه وهو لطفه، فسماه هدى; لأنه حاصل بالهدى، يهدي به بهذا الأثر من يشاء من عباده، يعني: من صحب أولئك ورآهم خاشين راجين، فكان ذلك مرغبا لهم في الاقتداء بسيرتهم وسلوك طريقتهم. ومن يضلل الله ومن لم تؤثر فيه ألطافه; لقسوة [ ص: 302 ] قلبه، وإصراره على فجوره، فما له من هاد من مؤثر فيه بشيء قط.