يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا منهم ميثاقا غليظا فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا
روي : أن كعب بن الأشرف وفنحاص بن عازورا وغيرهما قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إن كنت نبيا صادقا فأتنا بكتاب من السماء جملة كما أتى به موسى . فنزلت ، وقيل : [ ص: 172 ] كتابا إلى فلان وكتابا إلى فلان أنك رسول الله ، وقيل : كتابا نعاينه حين ينزل ، وإنما اقترحوا ذلك على سبيل التعنت ، قال ولو سألوه لكي يتبينوا الحق لأعطاهم وفيما آتاهم كفاية الحسن : فقد سألوا موسى جواب لشرط مقدر . معناه : إن استكبرت ما سألوه منك فقد سألوا موسى أكبر من ذلك وإنما أسند السؤال إليهم وإن وجد من آبائهم في أيام موسى وهم النقباء السبعون ، لأنهم كانوا على مذهبهم وراضين بسؤالهم ومضاهين لهم في التعنت جهرة : عيانا بمعنى أرناه نره جهرة بظلمهم : بسبب سؤالهم الرؤية ، ولو طلبوا أمرا جائزا لما سموا ظالمين ولما أخذتهم الصاعقة ، كما سأل إبراهيم - عليه السلام - أن يريه إحياء الموتى فلم يسمه ظالما ولا رماه بالصاعقة ، فتبا للمشبهة ورميا بالصواعق وآتينا موسى الكتاب سلطانا مبينا : تسلطا واستيلاء ظاهرا عليهم حين أمرهم بأن يقتلوا أنفسهم حتى يتاب عليهم فأطاعوه ، واحتبوا بأفنيتهم والسيوف تتساقط عليهم فيا لك من سلطان مبين بميثاقهم : بسبب ميثاقهم ليخافوا فلا ينقضوه وقلنا لهم : [ ص: 173 ] والطور مطل عليهم ادخلوا الباب سجدا ولا تعدوا في السبت ، وقد أخذ منهم الميثاق على ذلك ، وقولهم سمعنا وأطعنا ، ومعاهدتهم على أن يتموا عليه ثم نقضوه بعد ، وقرئ : "لا تعتدوا" . "ولا تعدوا" ، بادغام التاء في الدال فبما نقضهم : فبنقضهم ، و "ما" مزيدة للتوكيد . فإن قلت : بم تعلقت الباء؟ وما معنى التوكيد؟ قلت : إما أن يتعلق بمحذوف ، كأنه قيل : فبما نقضهم ميثاقهم فعلنا بهم ما فعلنا ، وإما أن يتعلق بقوله : حرمنا عليهم على أن قوله : فبظلم من الذين هادوا [النساء : 160] بدل من قوله : فبما نقضهم ميثاقهم وأما التوكيد فمعناه تحقيق أن العقاب أو تحريم الطيبات لم يكن إلا بنقض العهد وما عطف عليه من الكفر وقتل الأنبياء وغير ذلك . فإن قلت : هلا زعمت أن المحذوف [ ص: 174 ] الذي تعلقت به الباء ما دل عليه قوله : بل طبع الله عليها ، فيكون التقدير : فبما نقضهم ميثاقهم طبع الله على قلوبهم ، بل طبع الله عليها بكفرهم . قلت : لم يصح هذا التقدير لأن قوله : بل طبع الله عليها بكفرهم رد وإنكار لقولهم : قلوبنا غلف فكان متعلقا به ، وذلك أنهم أرادوا بقولهم : "قلوبنا غلف" أن الله خلق قلوبنا غلفا ، أي : في أكنة لا يتوصل إليها شيء من الذكر والموعظة ، كما حكى الله عن المشركين وقالوا : لو شاء الرحمن ما عبدناهم [الزخرف : 20] وكمذهب المجبرة أخزاهم الله ، فقيل لهم : بل خذلها الله ومنعها الألطاف بسبب كفرهم ، فصارت كالمطبوع عليها ، لا أن تخلق غلفا غير قابلة للذكر ولا متمكنة من قبوله . فإن قلت : علام عطف قوله : وبكفرهم ؟ قلت : الوجه أن يعطف على "فبما نقضهم" ويجعل قوله : بل طبع الله عليها بكفرهم كلاما تبع قوله : وقالوا قلوبنا غلف على وجه الاستطراد ، يجوز عطفه على ما يليه من قوله : "بكفرهم" . فإن قلت : ما معنى المجيء بالكفر معطوفا على ما فيه ذكره ، سواء عطف على ما قبل حرف الإضراب ، أو على ما بعده ، وهو قوله : وكفرهم بآيات الله وقوله : "بكفرهم"؟ قلت : قد تكرر منهم الكفر ، لأنهم كفروا بموسى ، ثم بعيسى ، ثم بمحمد صلوات الله عليهم ، فعطف بعض كفرهم على بعض ، أو عطف مجموع المعطوف على مجموع المعطوف عليه ، كأنه قيل : فبجمعهم بين نقض الميثاق ، والكفر بآيات الله ، وقتل الأنبياء وقولهم : قلوبنا [ ص: 175 ] غلف ، وجمعهم بين كفرهم وبهتهم مريم ، وافتخارهم بقتل عيسى ، عاقبناهم . أو بل طبع الله عليها بكفرهم وجمعهم بين كفرهم وكذا وكذا ، والبهتان العظيم : هو التزنية . فإن قلت : كانوا كافرين بعيسى - عليه السلام - أعداء له ، عامدين لقتله ، يسمونه الساحر ابن الساحرة ، والفاعل ابن الفاعلة ، فكيف قالوا : إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله ؟ قلت : قالوه على وجه الاستهزاء ، كقول فرعون : إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون [الشعراء : 27] ويجوز أن يضع الله الذكر الحسن مكان ذكرهم القبيح في الحكاية عنهم رفعا لعيسى عما كانوا يذكرونه به وتعظيما لما أرادوا بمثله كقوله : ليقولن خلقهن العزيز العليم الذي جعل لكم الأرض مهدا [الزخرف : 9] روي أن رهطا من اليهود سبوه وسبوا أمه فدعا عليهم "اللهم أنت ربي وبكلمتك خلقتني ، اللهم العن من سبني وسب والدتي" ، فمسخ الله من سبهما قردة وخنازير ، فأجمعت اليهود على قتله ، فأخبره الله بأنه يرفعه إلى السماء ويطهره من صحبة اليهود ، فقال لأصحابه : أيكم يرضى أن يلقى عليه شبهي فيقتل ويصلب ويدخل الجنة؟ فقال رجل منهم : أنا . فألقي عليه شبهه فقتل وصلب ، وقيل : كان رجلا ينافق عيسى ، فلما أرادوا قتله قال : أنا أدلكم عليه ، فدخل بيت عيسى فرفع عيسى وألقي شبهه على المنافق ، فدخلوا عليه فقتلوه وهم يظنون أنه عيسى ، ثم اختلفوا فقال بعضهم : إنه إله لا يصح قتله ، وقال بعضهم : إنه قتل وصلب ، وقال بعضهم : إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا؟ وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى؟ وقال بعضهم رفع إلى السماء وقال بعضهم : الوجه وجه عيسى والبدن بدن صاحبنا . فإن قلت : شبه مسند إلى ماذا؟ إن جعلته مسندا إلى المسيح ، فالمسيح مشبه به وليس بمشبه ، وإن أسندته إلى المقتول فالمقتول لم يجر له ذكر قلت : هو مسند إلى الجار والمجرور وهو "لهم" كقولك خيل إليه ، كأنه قيل : ولكن وقع لهم التشبيه ، ويجوز أن يسند إلى ضمير المقتول; لأن قوله : إنا قتلنا يدل عليه ، كأنه قيل : ولكن شبه لهم من قتلوه إلا اتباع الظن استثناء منقطع لأن اتباع الظن ليس من جنس العلم ، يعني : ولكنهم يتبعون الظن . فإن قلت : قد وصفوا بالشك والشك ألا يترجح أحد الجائزين ، ثم وصفوا بالظن والظن أن يترجح أحدهما ، فكيف يكونون شاكين ظانين؟ قلت : أريد [ ص: 176 ] أنهم شاكون ما لهم من علم قط ، ولكن إن لاحت لهم أمارة فظنوا ، فذاك وما قتلوه يقينا : وما قتلوه قتلا يقينا . أو ما قتلوه متيقنين ، كما ادعوا ذلك في قولهم : إنا قتلنا المسيح أو يجعل "يقينا" تأكيدا لقوله : وما قتلوه كقولك : ما قتلوه حقا أي : حق انتفاء قتله حقا ، وقيل : هو من قولهم : قتلت الشيء علما ونحرته علما إذا تبالغ فيه علمك ، وفيه تهكم ، لأنه إذا نفي عنهم العلم نفيا كليا بحرف الاستغراق . ثم قيل : وما علموه علم يقين وإحاطة لم يكن إلا تهكما بهم ليؤمنن به جملة قسمية واقعة صفة لموصوف محذوف تقديره : وإن من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن به ، ونحوه : وما منا إلا له مقام معلوم [الصافات : 164] وإن منكم إلا واردها [مريم : 71] والمعنى : وما من اليهود والنصارى أحد إلا ليؤمنن قبل موته بعيسى ، وبأنه عبد الله ورسوله ، يعني : إذا عاين قبل أن تزهق روحه حين لا ينفعه إيمانه لانقطاع وقت التكليف ، وعن قال لي شهر ابن حوشب : آية ما قرأتها إلا تخالج في نفسي شيء منها يعني هذه الآية ، وقال : إني أوتى بالأسير من اليهود والنصارى فأضرب عنقه فلا أسمع منه ذلك ، فقلت : إن الحجاج : وقالوا : يا عدو الله ، أتاك اليهودي إذا حضره الموت ضربت الملائكة دبره ووجهه موسى نبيا فكذبت به فيقول : آمنت أنه عبد نبي ، وتقول للنصراني : أتاك عيسى نبيا فزعمت أنه الله أو ابن الله ، فيؤمن أنه عبد الله ورسوله حيث لا ينفعه إيمانه . قال : وكان متكئا فاستوى جالسا فنظر إلي وقال : ممن؟ قلت : حدثني ، فأخذ ينكت الأرض بقضيبه ثم قال : لقد أخذتها من عين صافية ، أو من معدنها . قال محمد بن علي بن الحنفية فقلت له : ما أردت إلى أن تقول حدثني الكلبي : قال : أردت أن أغيظه ، يعني بزيادة اسم محمد بن علي بن الحنفية . لأنه مشهور علي ، وعن بابن الحنفية ، أنه فسره كذلك ، فقال له ابن عباس فإن أتاه رجل فضرب عنقه قال : لا تخرج نفسه حتى يحرك بها شفتيه . قال : وإن خر من فوق بيت أو [ ص: 177 ] احترق أو أكله سبع قال : يتكلم بها في الهواء ولا تخرج روحه حتى يؤمن به ، وتدل عليه قراءة عكرمة : "إلا ليؤمنن به قبل موتهم" بضم النون على معنى : وإن منهم أحد إلا سيؤمنون به قبل موتهم ، لأن أحدا يصلح للجمع . فإن قلت : ما فائدة الإخبار بإيمانهم بعيسى قبل موتهم؟ قلت : فائدته الوعيد ، وليكون علمهم بأنهم لا بد لهم من الإيمان به عن قريب عند المعاينة ، وإن ذلك لا ينفعهم ، بعثا لهم وتنبيها على معالجة الإيمان به في أوان الانتفاع به ، وليكون إلزاما للحجة لهم ، وكذلك قوله : أبي : ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا يشهد على اليهود بأنهم كذبوه ، وعلى النصارى بأنهم دعوه ابن الله ، وقيل : الضميران لعيسى ، بمعنى : وإن منهم أحد إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى ، وهم أهل الكتاب الذين يكونون في زمان نزوله . روي : ، ويهلك الله في زمانه المسيح الدجال ، وتقع الأمنة حتى ترتع الأسود مع الإبل ، والنمور مع البقر ، والذئاب مع الغنم ، ويلعب الصبيان بالحيات ، ويلبث في الأرض أربعين سنة ، ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون ويدفنونه ، ملة الإسلام ويجوز أن يراد أنه لا يبقى أحد من جميع أهل الكتاب إلا ليؤمنن به ، على أن الله يحييهم في قبورهم في ذلك الزمان ، ويعلمهم نزوله وما أنزل له ، ويؤمنون به حين لا ينفعهم إيمانهم ، وقيل : الضمير في "به" يرجع إلى الله تعالى ، وقيل : إلى أنه ينزل من السماء في آخر الزمان ، فلا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا يؤمن به ، حتى تكون الملة واحدة وهي محمد صلى الله عليه وسلم .