وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين قالوا بل لم تكونوا مؤمنين وما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوما طاغين فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون فأغويناكم إنا كنا غاوين فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون إنا كذلك نفعل بالمجرمين
هذه الجماعة التي يقبل بعضها على بعض هي جن وإنس ، قاله : وتساؤلهم هو على معنى التقريع واللوم والسخط، والقائلون: قتادة إنكم كنتم تأتوننا إما أن يكون الإنس للشياطين، وهذا قول ، مجاهد ، أو ضعفة الإنس للكبراء والقادة. واضطرب المتأولون في معنى قولهم: وابن زيد "عن اليمين"، وعبر عنه بطريق الجنة والخير، ونحو هذا من العبارات التي تفسر بالمعنى لا تختص بنفس اللفظة، وبعضهم نحا في تفسير الآية إلى ما يختصها، والذي يتحصل من ذلك معان: منها أن يريد باليمين: القوة والشدة، فكأنهم قالوا: إنكم كنتم تغووننا بقوة منكم، وتحملوننا على طريق الضلالة بمتابعة منكم في شدة، فعبر عن هذه المعاني باليمين، كقول العرب: "بيدين ما أورد"، وكما قالوا: "اليد" - في غير موضع - عن القوة، وقد ذهب بعض الناس ببيت ابن زيد الشماخ هذا المذهب، وهو قوله:
إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين
[ ص: 279 ] فقالوا: معناه: بقوة وعزيمة، وإلا فكل أحد كان يتلقاها بيمينه لو كانت الجارحة، وأيضا فإنما استعار الراية للمجد فكذلك لم يرد باليمين الجارحة.
ومن المعاني التي تحتملها الآية أن يريدوا: إنكم كنتم تأتوننا من الجهة التي يحسنها تمويهكم وإغواؤكم، ويظهر فيها أنها جهة الرشد والصواب، فتصير عندنا كاليمين التي نتيمن بالسانح الذي يجيؤنا من قبلها، فكأنهم شبهوا أقوال هؤلاء المغوين بالسوانح التي هي عندهم محمودة، كأن التمويه في هذه الغوايات قد أظهر فيها ما يوشك أن يحمد به.
ومن المعاني التي تحتملها الآية أن يريدوا: إنكم كنتم تأتوننا، أي: تقطعون بنا عن أخبار الخير واليمين، فعبر عنها باليمين; إذ اليمين هي الجهة التي يتيمن بها وبكل ما فيها ومنها.
ومن المعاني التي تحتملها الآية أن يريدوا: إنكم كنتم تجيئوننا من جهة الشهوات وعدم النظر; والجهة الثقيلة من الإنسان هي اليمنى منه لأن كبده فيها، وجهة شماله فيها قلبه، وهي أخف، وهذا معنى قول الشاعر:
تركنا لهم شق الشمال
أي: نزلنا لهم عن طريق الهروب; لأن المنهزم إنما يرجع على شقه الأيسر، إذ هو أخف شقيه، وإذ قلب الإنسان في شماله وثم نظره، فكأن هؤلاء كانوا يأتون من جهة الشهوات والثقل، وأكثر ما يتمكن هذا التأويل مع إغواء الشياطين، وهو قلق مع إغواء بني آدم.
[ ص: 280 ] وقيل: المعنى: يحلفون لنا ويأتوننا إتيان من إذا حلف لنا صدقناه، فاليمين - على هذا -: القسم.
وقد ذهب بعض الناس في ذكر إبليس جهات بني آدم في قوله: من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم إلى ما ذكرناه من جهة الشهوات، فقال: ما بين يديه هي مغالطته فيما يراه، وما خلفه هي مسارقته في الخفاء، وعن يمينه هو جانب شهواته، وعن شماله هو نظره بقلبه وتحذيره فقد يغلبه الشيطان فيه، وهذا فيمن جعله في جهات ابن آدم الخاصة لديه، ومنهم من جعلها في جهات أموره وشؤونه فيتسع التأويل على هذا.
ثم أخبر تعالى عن قول الجن المجيبين لهؤلاء: بل لم تكونوا مؤمنين كما ذكرتم، بل كان لكم اكتساب الكفر والبصيرة فيه، وإنما حملناكم على ما حملنا عليه أنفسنا، وما كان لنا عليكم حجة ولا قوة إلا طغيانكم وإرادتكم الكفر، فقد حق القول على جميعنا، وتعين العذاب لنا، وإنا جميعا لذائقون. والذوق هنا مستعار، وبنحو هذا فسر وغيره أنه قول الجن إلى قتادة "غاوين".
ثم أخبر الله تعالى أنهم اشتركوا جميعا في العذاب وحصلوا فيه، وأن هذا فعله بأهل الجرم واحتقاب الإثم والكفر.