القسم الثالث : في فنبدأ بالأمر ، فنقول : أولا في حده ، وحقيقته ، وثانيا في صيغته ، وثالثا في مقتضاه من الفور ، والتراخي أو الوجوب أو الندب ، وفي التكرار ، والاتحاد ، وإثباته . الأمر ، والنهي
النظر الأول : في حده ، وحقيقته .
، وهو قسم من أقسام الكلام ، إذ بينا أن الكلام ينقسم إلى أمر ، ونهي ، وخبر ، واستخبار ، فالأمر أحد أقسامه ، وحد الأمر أنه القول المقتضي طاعة المأمور بفعل المأمور به ، والنهي هو القول المقتضي ترك الفعل ، وقيل في : إنه طلب الفعل ، واقتضاؤه على غير ، وجه المسألة ، وممن دون الآمر في الدرجة احترازا عن قوله : اللهم اغفر لي ، وعن سؤال العبد من سيده ، والولد من والده ولا حاجة إلى هذا الاحتراز ، بل يتصور من العبد ، والولد أمر السيد ، والوالد ، وإن لم تجب عليهما الطاعة ، فليس من ضرورة كل أمر أن يكون واجب الطاعة بل الطاعة لا تجب إلا لله تعالى حد الأمر ، والعرب قد تقول : فلان أمر أباه ، والعبد أمر سيده ، ومن يعلم أن طلب الطاعة لا يحسن منه فيرون ذلك أمرا ، وإن لم يستحسنوه .
وكذلك قوله : اغفر لي فلا يستحيل أن يقوم بذاته اقتضاء الطاعة من الله تعالى أو من غيره فيكون آمرا ، ويكون عاصيا بأمره . فإن قيل : قولكم الأمر هو القول المقتضي طاعة المأمور أردتم به القول باللسان أو كلام النفس ؟ قلنا : الناس فريقان :
الفريق الأول : هم المثبتون لكلام النفس ، وهؤلاء يريدون بالقول ما يقوم بالنفس من اقتضاء الطاعة ، وهو الذي يكون النطق عبارة عنه ، ودليلا عليه ، وهو قائم بالنفس ، وهو أمر بذاته ، وجنسه ، ويتعلق بالمأمور به ، وهو كالقدرة فإنها قدرة لذاتها ، وتتعلق بمتعلقها ، ولا يختلف في الشاهد ، والغائب في نوعه ، وحده ، وينقسم إلى قديم ، ومحدث كالقدرة ، ويدل عليه تارة بالإشارة ، والرمز ، والفعل ، وتارة بالألفاظ ، فإن سميت الإشارة المعرفة أمرا فمجاز لأنه دليل على الأمر لا أنه نفس الأمر .
وأما الألفاظ فمثل قوله : أمرتك ، فاقتضى طاعته ، وهو ينقسم إلى إيجاب ، وندب ، ويدل على معنى الندب بقوله : ندبتك ، ورغبتك فافعل فإنه خير لك ، وعلى معنى الوجوب بقوله : أوجبت عليك أو فرضت أو حتمت فافعل فإن تركت فأنت معاقب ، وما يجري مجراه ، وهذه الألفاظ الدالة على معنى الأمر تسمى أمرا ، وكأن الاسم مشترك بين المعنى القائم بالنفس ، وبين اللفظ الدال فيكون حقيقة فيهما أو يكون حقيقة في المعنى القائم بالنفس ، وقوله : افعل ، يسمى أمرا مجازا كما تسمى الإشارة المعرفة أمرا مجازا ، ومثل هذا الخلاف جاز في اسم الكلام أنه مشترك بين ما في النفس ، وبين اللفظ أو هو مجاز في اللفظ .
الفريق الثاني : هم المنكرون [ ص: 203 ] لكلام النفس ، وهؤلاء انقسموا إلى ثلاثة أصناف ، وتحزبوا على ثلاث مراتب :
الحزب الأول : قالوا : لا معنى للأمر إلا حرف ، وصوت ، وهو مثل قوله : افعل ، أو ما يفيد معناه .
وإليه ذهب البلخي من المعتزلة ، وزعم أن قوله " افعل " أمر لذاته ، وجنسه ، وأنه لا يتصور أن لا يكون أمرا فقيل له : هذه الصيغة قد تصدر للتهديد ، كقوله : { اعملوا ما شئتم } ، وقد تصدر للإباحة كقوله : { وإذا حللتم فاصطادوا } فقال : ذلك جنس آخر لا من هذا الجنس ، وهو مناكرة للحس . فلما استشعر ضعف هذه المجاحدة اعترف .
الحزب الثاني : وفيهم جماعة من الفقهاء يقولون : إن قوله : " افعل " ليس أمرا بمجرد صيغته ولذاته بل لصيغته ، وتجرده عن القرائن الصارفة له عن جهة الأمر إلى التهديد ، والإباحة ، وغيره ، وزعموا أنه لو صدر من النائم ، والمجنون أيضا لم يكن أمرا للقرينة ، وهذا يعارضه قول من قال : إنه لغير الأمر إلا إذا صرفته قرينة إلى معنى الأمر لأنه إذا سلم إطلاق العرب هذه الصيغة على أوجه مختلفة فحوالة البعض على الصيغة ، وحوالة الباقي على القرينة تحكم مجرد لا يعلم بضرورة العقل ، ولا بنظر ، ولا بنقل متواتر من أهل اللغة فيجب التوقف فيه ، فعند ذلك اعترف .
الحزب الثالث : من محققي المعتزلة أنه ليس أمرا لصيغته ، وذاته ، ولا لكونه مجردا عن القرائن مع الصيغة ، بل يصير أمرا بثلاث إرادات إرادة المأمور به ، وإرادة إحداث الصيغة ، وإرادة الدلالة بالصيغة على الأمر دون الإباحة ، والتهديد ، وقال بعضهم : تكفي إرادة واحدة ، وهي إرادة المأمور به ، وهذا فاسد من أوجه :
الأول : أنه يلزم أن يكون قوله تعالى : { ادخلوها بسلام آمنين } ، وقوله : { كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية } أمرا لأهل الجنة ، ولا يمكن تحقيق الأمر إلا بوعد ، ووعيد فتكون الدار الآخرة دار تكليف ، ومحنة ، وهو خلاف الإجماع ، وقد ركب ابن الجبائي هذا ، وقال : إن الله مريد دخولهم الجنة ، وكاره امتناعهم إذ يتعذر به إيصال الثواب إليهم ، وهذا ظلم ، والله سبحانه يكره الظلم . فإن قيل : قد وجدت إرادة الصيغة ، وإرادة المأمور به لكن لم توجد إرادة الدلالة به على الأمر .
قلنا : وهل للأمر معنى وراء الصيغة حتى تراد الدلالة عليه أم لا ؟ فإن كان له معنى فما هو ، وهل له حقيقة سوى ما يقوم بالنفس من اقتضاء الطاعة ؟ وإن لم يكن سوى الصيغة فلا معنى لاعتبار هذه الإرادة الثالثة :
الوجه الثاني : أنه يلزمهم أن يكون القائل لنفسه افعل مع إرادة الفعل من نفسه آمرا لنفسه ، وهو محال بالاتفاق فإن الآمر هو المقتضي ، وأمره لنفسه لا يكون مقتضيا للفعل بل المقتضي دواعيه ، وأغراضه ولهذا لو قال لنفسه " افعل " ، وسكت وجد ههنا إرادة الصيغة ، وإرادة المأمور به ، وليس بأمر ، فدل أن حقيقته اقتضاء الطاعة ، وهو معنى قائم بالنفس من ضرورته أن يتعلق بغيره ، وهل يشترط أن لا يكون ذلك الغير فوقه في الرتبة ؟ فيه كلام سبق . فإن قيل ، وما الدليل على قيام معنى بالنفس سوى إرادة الفعل المأمور به ، فإن السيد لا يجد من نفسه عند قوله لعبده اسقني أو أسرج الدابة إلا إرادة السقي [ ص: 204 ] والإسراج ، أعني : طلبه ، والميل إليه لارتباط غرضه به ، فإن ثبت أن الأمر يرجع إلى هذه الإرادة لزم اقتران الأمر ، والإرادة في حق الله تعالى حتى لا تكون المعاصي الواقعة إلا مأمورا بها مرادة ، إذ الكائنات كلها مرادة . أو ينكر وقوعها بإرادة الله فيقال : إنها على خلاف إرادته ، وهو شنيع إذ يؤدي إلى أن يكون ما يجري في ملكه على خلاف ما أراد أكثر مما يجري على وفق إرادته ، وهي الطاعات ، وذلك أيضا منكر ، فما المخلص من هذه الورطة ؟ قلنا : هذه الضرورة التي دعت الأصحاب إلى تمييز الأمر عن الإرادة فقالوا : قد يأمر السيد عبده بما لا يريده ، كالمعاتب من جهة السلطان على ضرب عبده إذا مهد عنده عذره لمخالفة أوامره فقال له بين يدي الملك : أسرج الدابة ، وهو يريد أن لا يسرج إذ في إسراجه خطر ، وإهلاك للسيد ، فيعلم أنه لا يريده ، وهو أمر إذ لولاه لما كان العبد مخالفا ، ولما تمهد عذره عند السلطان ، وكيف لا يكون أمرا ، وقد فهم العبد ، والسلطان ، والحاضرون منه الأمر ؟ فدل أنه قد يأمر بما لا يريده هذا منتهى كلامهم ، وتحته غور لو كشفناه لم تحتمل الأصول التقصي عن عهدة ما يلزم منه ، ولتزلزلت به قواعد لا يمكن تداركها إلا بتفهيمها على وجه يخالف ما سبق إلى أوهام أكثر المتكلمين ، والقول فيه يطول ، ويخرج عن خصوص مقصود الأصول .