الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              مسألة : الصحيح الذي ذهب إليه الجماهير من سلف الأمة من الصحابة والتابعين والفقهاء والمتكلمين أنه لا يستحيل التعبد بخبر الواحد عقلا ولا يجب التعبد به عقلا وأن التعبد به واقع سمعا وقال جماهير القدرية ومن تابعهم من أهل الظاهر كالقاشاني بتحريم العمل به سمعا . ويدل على بطلان مذهبهم مسلكان قاطعان :

              أحدهما إجماع الصحابة : على قبول خبر الواحد .

              والثاني : تواتر الخبر بإنفاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الولاة والرسل إلى البلاد وتكليفه إياهم تصديقهم فيما نقلوه من الشرع . ونحن نقرر هذين المسلكين :

              المسلك الأول : ما تواتر واشتهر من عمل الصحابة بخبر الواحد في وقائع شتى لا تنحصر وإن لم تتواتر آحادها فيحصل العلم بمجموعها ، ونحن نشير إلى بعضها : فمنها : ما روي عن عمر رضي الله عنه في وقائع كثيرة ، من ذلك قصة الجنين وقيامه في ذلك يقول : أذكر الله امرأ سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا في الجنين فقام إليه حمل بن مالك بن النابغة وقال : { كنت بين جارتين يعني ضرتين - فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فألقت جنينا ميتا فقضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بغرة عبد أو وليدة } . فقال عمر لو لم نسمع هذا لقضينا فيه بغير هذا ، أي لم نقض بالغرة أصلا . وقد انفصل الجنين ميتا للشك في أصل حياته . ومن ذلك أنه رضي الله عنه كان لا يرى توريث المرأة من دية زوجها ، فلما أخبره الضحاك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من ديته رجع إلى ذلك . ومن ذلك ما تظاهرت به الأخبار عنه في قصة المجوس أنه قال : " ما أدري ما الذي أصنع في أمرهم وقال : " أنشد الله امرأ سمع فيه شيئا إلا رفعه إلينا " فقال عبد الرحمن بن عوف أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { سنوا بهم سنة أهل الكتاب } فأخذ الجزية منهم وأقرهم على دينهم .

              ومنها ما ظهر منه ومن عثمان رضي الله عنه وجماهير الصحابة رضي الله عنهم من الرجوع عن سقوط فرض الغسل من التقاء الختانين بخبر عائشة رضي الله عنها وقولها { : فعلت ذلك أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم } فاغتسلنا . ومن ذلك ما صح عن عثمان رضي الله عنه أنه قضى في السكنى بخبر فريعة بنت مالك بعد أن أرسل إليها وسألها .

              ومنها ما ظهر من علي رضي الله عنه من قبوله خبر الواحد واستظهاره باليمين ، حتى قال في الخبر المشهور : كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا نفعني الله بما شاء منه ، وإذا حدثني غيره أحلفته فإذا حلف صدقته ، [ ص: 119 ] وحدثني أبو بكر - وصدق أبو بكر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { ما من عبد يصيب ذنبا } الحديث ، فكان يحلف المخبر لا لتهمة بالكذب ولكن للاحتياط في سياق الحديث على وجهه والتحرز من تغيير لفظه نقلا بالمعنى ولئلا يقدم على الرواية بالظن بل عند السماع المحقق .

              ومنها ما روي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه كان يرى أن الحائض لا يجوز لها أن تصدر حتى يكون آخر عهدها الطواف بالبيت ، وأنكر على ابن عباس خلافه في ذلك ، فقيل له : إن ابن عباس سأل فلانة الأنصارية هل أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فأخبرته ، فرجع زيد بن ثابت يضحك ويقول لابن عباس : ما أراك إلا قد صدقت ورجع إلى موافقته بخبر الأنصارية .

              ومنها ما روي عن أنس رضي الله عنه أنه قال : كنت أسقي أبا عبيدة وأبا طلحة وأبي بن كعب شرابا من فضيخ تمر ، إذ أتانا آت فقال : إن الخمر قد حرمت ، فقال أبو طلحة : قم يا أنس إلى هذه الجرار فاكسرها فقمت إلى مهراس لنا فضربتها بأسفله حتى تكسرت . ومنها ما اشتهر من عمل أهل قباء في التحول عن القبلة بخبر الواحد وأنهم أتاهم آت فأخبرهم بنسخ القبلة فانحرفوا إلى الكعبة بخبره .

              ومنها ما ظهر من ابن عباس رضي الله عنه وقد قيل إن فلانا رجلا من المسلمين يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس بموسى بني إسرائيل عليه السلام ، فقال ابن عباس كذب عدو الله ، أخبرني أبي بن كعب قال { : خطبنا رسول الله عليه السلام ، ثم ذكر موسى والخضر بشيء يدل على أن موسى صاحب الخضر هو موسى بني إسرائيل } ، فتجاوز ابن عباس العمل بخبر الواحد وبادر إلى التكذيب بأصله والقطع بذلك لأجل خبر أبي بن كعب ومنها أيضا ما روي عن أبي الدرداء أنه لما باع معاوية شيئا من آنية الذهب والورق بأكثر من وزنه فقال له أبو الدرداء : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن ذلك ، فقال له معاوية : إني لا أرى بذلك بأسا ، فقال أبو الدرداء من يعذرني من معاوية ؟ أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرني عن رأيه لا أساكنك بأرض أبدا .

              ومنها ما اشتهر عن جميعهم في أخبار لا تحصى الرجوع إلى عائشة وأم سلمة وميمونة وحفصة رضوان الله عليهن وإلى فاطمة بنت أسد وفلانة وفلانة ممن لا يحصى كثرة وإلى زيد وأسامة بن زيد وغيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم من الرجال والنساء والعبيد والموالي وعلى ذلك جرت سنة التابعين بعدهم قال الشافعي رحمه الله : وجدنا علي بن الحسين رضي الله عنه يعول على أخبار الآحاد ، وكذلك محمد بن علي وجبير بن مطعم ونافع بن جبير وخارجة بن زيد وأبو سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار وعطاء بن يسار . وكذلك كان حال طاووس وعطاء ومجاهد وكان سعيد بن المسيب يقول : أخبرني أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصرف ، فيثبت حديثه سنة ، ويقول : حدثني أبو هريرة .

              وعروة بن الزبير يقول : حدثتني عائشة رضي الله عنها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { قضى أن الخراج بالضمان } ويعترض بذلك على قضية عمر بن عبد العزيز ، فينقض عمر قضاءه لأجل ذلك . وكذلك ميسرة باليمن ومكحول بالشام وعلى ذلك كان فقهاء البصرة كالحسن وابن سيرين ، وفقهاء الكوفة وتابعوهم كعلقمة والأسود والشعبي ومسروق ، وعليه جرى من [ ص: 120 ] بعدهم من الفقهاء ولم ينكر عليهم أحد في عصر ، ولو كان نكير لنقل ولوجب في مستقر العادة اشتهاره وتوفرت الدواعي على نقله كما توفرت على نقل العمل به فقد ثبت أن ذلك مجمع عليه من السلف ، وإنما الخلاف حدث بعدهم .

              فإن قيل : لعلهم عملوا بها مع قرائن أو بأخبار أخر صاحبتها أو ظواهر ومقاييس وأسباب قارنتها لا بمجرد هذه الأخبار كما زعمتم كما قلتم عملهم بالعموم ، وصيغة الأمر والنهي ليس نصا صريحا على أنهم عملوا بمجردها بل بها مع قرائن قارنتها . قلنا : لأنهم لم ينقل عنهم لفظا إنما عملنا بمجرد الصيغة من أمر ونهي وعموم ، وقد قالوا ههنا : لولا هذا لقضينا بغير هذا ، وصرح ابن عمر رضي الله عنهما برجوعهم عن المخابرة بخبر رافع بن خديج ورجوعهم في التقاء الختانين بخبر عائشة رضي الله عنها ، كيف وصيغة العموم والأمر والنهي قط لا تنفك عن قرينة من حال المأمور والمأمور به والأمر ؟ أما ما يرويه الراوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فماذا يقترن به حتى يكون دليلا بسببه ؟ فتقدير ذلك كتقدير قرائن في عملهم بنص الكتاب وبالخبر المتواتر وبالإجماع وذلك يبطل جميع الأدلة .

              وبالجملة فمناشدتهم في طلب الأخبار لا داعي لها إلا العمل بها . فإن قيل فقد تركوا العمل بأخبار كثيرة أيضا . قلنا : ذلك لفقدهم شرط قبولها كما سيأتي ، وكما تركوا العمل بنص القرآن وبأخبار متواترة لاطلاعهم على نسخها أو فوات الأمر وانقراض من كان الخطاب الثاني متعلقا به .

              الدليل الثاني : ما تواتر من إنفاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراءه وقضاته ورسله وسعاته إلى الأطراف وهم آحاد ولا يرسلهم إلا لقبض الصدقات وحل العهود وتقريرها وتبليغ أحكام الشرع ، فمن ذلك تأميره أبا بكر الصديق على الموسم سنة تسع ، وإنفاذه سورة براءة مع علي ، وتحميله فسخ العهود والعقود التي كانت بينهم وبينه صلى الله عليه وسلم . ومن ذلك توليته عمر رضي الله عنه على الصدقات وتوليته معاذا قبض صدقات اليمن والحكم على أهلها .

              ومن ذلك إنفاذه صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان إلى أهل مكة متحملا ورسولا مؤديا عنه ، حتى بلغه أن قريشا قتلته ، فقلق لذلك وبايع لأجله بيعة الرضوان وقال : { والله لئن كانوا قتلوه لأضرمنها عليهم نارا } . ومن ذلك توليته صلى الله عليه وسلم على الصدقات والجبايات قيس بن عاصم ومالك بن نويرة والزبرقان بن بدر وزيد بن حارثة وعمرو بن العاص وعمرو بن حزم وأسامة بن زيد وعبد الرحمن بن عوف وأبا عبيدة بن الجراح وغيرهم ممن يطول ذكرهم .

              وقد ثبت باتفاق أهل السير أنه كان صلى الله عليه وسلم يلزم أهل النواحي قبول قول رسله وسعاته وحكامه ، ولو احتاج في كل رسول إلى تنفيذ عدد التواتر معه لم يف بذلك جميع أصحابه وخلت دار هجرته عن أصحابه وأنصاره وتمكن منه أعداؤه من اليهود وغيرهم وفسد النظام والتدبير ، وذلك وهم باطل قطعا .

              فإن قيل : كان قد أعلمهم صلى الله عليه وسلم تفصيل الصدقات شفاها وبأخبار متواترة وإنما بعثهم لقبضها قلنا ولم وجب تصديقهم في دعوى القبض وهم آحاد ؟ ثم لم يكن بعثه صلى الله عليه وسلم في الصدقات فقط بل كان في تعليمهم الدين والحكم بين المتخاصمين وتعريف وظائف الشرع . فإن قيل : فليجب عليهم قبول أصل الصلاة والزكاة بل أصل الدعوة والرسالة [ ص: 121 ] والمعجزة .

              قلنا : أما أصل الزكاة والصلاة فكان يجب قبوله لأنهم كانوا ينفذون لشرح وظائف الشرع بعد انتشار أصل الدعوة ، وأما أصل الرسالة والإيمان وأعلام النبوة فلا ، إذ كيف يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أوجبت عليكم تصديقي وهم لم يعرفوا برسالته ؟ أما بعد التصديق به فيمكن الإصغاء إلى رسله بإيجابه الإصغاء إليهم . فإن قيل : فإنما يجب قبول خبر الواحد إذا دل قاطع على وجوب العمل به كما دل الإجماع والتواتر عندكم ، فأولئك بماذا صدقوا الولاة في قولهم يجب عليكم العمل بقولنا ؟ قلنا : قد كان تواتر إليهم من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ينفذ الولاة والرسل آحادا كسائر الأكابر والرؤساء ، ولولا علمهم بذلك لجاز للمتشكك أن يجادل فيه إذا عرض له شك ، ولكن قل ما يعرض الشك فيه مع القرائن ، فإن الذي يدخل بلادنا مع منشور القضاء قد لا يخالجنا ريب في صدقه وإن لم يتواتر إلينا ، ولكن بقرائن الأحوال والمعرفة لخط الكاتب وببعد جرأته على الكذب مع تعرضه للخطر في أمثال ذلك .

              الدليل الثالث : أن العامي بالإجماع مأمور باتباع المفتي وتصديقه مع أنه ربما يخبر عن ظنه ، فالذي يخبر بالسماع الذي لا يشك فيه أولى بالتصديق ، والكذب والغلط جائزان على المفتي كما على الراوي ، بل الغلط على الراوي أبعد لأن كل مجتهد وإن كان مصيبا فإنما يكون مصيبا إذا لم يقصر في إتمام النظر ، وربما يظن أنه لم يقصر ويكون قد قصر .

              وهذا على مذهب من يجوز تقليد مقلد الشافعي رحمه الله إذا نقل مذهبه أوقع لأنه يروي مذهب غيره فكيف لا يروي قول غيره ؟ فإن قيل : هذا قياس لا يفيد إلا الظن ولا يجوز إثبات الأصول بالظن والقياس ، والعمل بخبر الواحد أصل ، كيف ولا ينقدح وجه الظن ؟ فإن المجتهد مما يضطر إليه ، ولو كلف آحاد العوام درجة الاجتهاد تعذر ذلك فهو مضطر إلى تقليد المفتي .

              قلنا : لا ضرورة في ذلك ، بل ينبغي أن يرجع إلى البراءة الأصلية إذ لا طريق له إلى المعرفة ، كما وجب على المفتي بزعمكم إذا بلغه خبر الواحد أن يرد الخبر فيرجع إلى البراءة الأصلية إذا تعذر عليه التواتر . ثم نقول : ليس هذا قياسا مظنونا بل هو مقطوع به بأنه في معناه لأنه لو صح العمل بخبر الواحد في الأنكحة لقطعنا به في البياعات ولم يختلف الأمر باختلاف المروي ، وههنا لم يختلف إلا المخبر عنه فإن المفتي يخبر عن ظن نفسه والراوي عن قول غيره كما لم يفرق في حق الشاهدين بين أن يخبرا عن أنفسهما أو عن غيرهما إذا شهدا على عدالة غيرهما أو يخبرا عن ظن أنفسهما العدالة في غيرهما .

              الدليل الرابع : قوله تعالى : { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم } فالطائفة نفر يسير كالثلاثة ، ولا يحصل العلم بقولهم . وهذا فيه نظر لأنه إن كان قاطعا فهو في وجوب الإنذار لا في وجوب العمل على المنذر عند اتحاد المنذر كما يجب على الشاهد الواحد إقامة الشهادة لا ليعمل بها وحدها ، لكن إذا انضم غيرها إليها .

              وهذا الاعتراض هو الذي يضعف أيضا التمسك بقوله تعالى : { إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى } وبقوله صلى الله عليه وسلم { نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها } الحديث وأمثالهما . ثم [ ص: 122 ] اعلم أن المخالف في المسألة له شبهتان :

              الشبهة الأولى : قولهم : لا مستند في إثبات خبر الواحد إلا الإجماع ، فكيف يدعي ذلك وما من أحد من الصحابة إلا وقد رد خبر الواحد ؟ فمن ذلك توقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قبول خبر ذي اليدين حيث سلم عن اثنتين حتى سأل أبا بكر وعمر رضي الله عنهما وشهدا بذلك وصدقاه ، ثم قبل وسجد للسهو .

              ومن ذلك رد أبي بكر رضي الله عنه خبر المغيرة بن شعبة من ميراث الجد حتى أخبره معه محمد بن مسلمة . ومن ذلك رد أبي بكر وعمر خبر عثمان رضي الله عنهم فيما رواه من استئذانه الرسول في رد الحكم بن أبي العاص وطالباه بمن يشهد معه بذلك . ومن ذلك ما اشتهر من رد عمر رضي الله عنه خبر أبي موسى الأشعري في الاستئذان حتى شهد له أبو سعيد الخدري رضي الله عنه .

              ومن ذلك رد علي رضي الله عنه خبر أبي سنان الأشجعي في قصة بروع بنت واشق وقد ظهر منه أنه كان يحلف على الحديث . ومن ذلك رد عائشة رضي الله عنها خبر ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه . وظهر من عمر نهيه لأبي موسى وأبي هريرة عن الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأمثال ذلك مما يكثر . وأكثر هذه الأخبار تدل على مذهب من يشترط عددا في الراوي لا على مذهب من يشترط التواتر ، فإنهم لم يجتمعوا فينتظروا التواتر .

              لكنا نقول في الجواب عما سألوا عنه : الذي رويناه قاطع في عملهم وما ذكرتموه رد لأسباب عارضة تقتضي الرد ولا تدل على بطلان الأصل ، كما أن ردهم بعض نصوص القرآن وتركهم بعض أنواع القياس ورد القاضي بعض أنواع الشهادات لا يدل على بطلان الأصل . ونحن نشير إلى جنس المعاذير في رد الأخبار والتوقف فيها : أما توقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول ذي اليدين فيحتمل ثلاثة أمور :

              أحدها : أنه جوز الوهم عليه لكثرة الجمع وبعد انفراده بمعرفة ذلك مع غفلة الجميع إذ الغلط عليه أقرب من الغفلة على الجمع الكثير ، وحيث ظهرت أمارات الوهم يجب التوقف .

              الثاني : أنه وإن علم صدقه جاز أن يكون سبب توقفه أن يعلمهم وجوب التوقف في مثله ، ولو لم يتوقف لصار التصديق مع سكوت الجماعة سنة ماضية ، فحسم سبيل ذلك

              الثالث : أنه قال قولا لو علم صدقا لظهر أثره في حق الجماعة واشتغلت ذمتهم فألحق بقبيل الشهادة فلم يقبل فيه قول الواحد ، والأقوى ما ذكرناه من قبل . نعم لو تعلق بهذا من يشترط عدد الشهادة فيلزمه اشتراط ثلاثة ويلزمه أن تكون في جمع يسكت عليه الباقون لأنه كذلك كان .

              أما توقف أبي بكر في حديث المغيرة في توريث الجدة فلعله كان هناك وجه اقتضى التوقف ، وربما لم يطلع عليه أحد ، أو لينظر أنه حكم مستقر أو منسوخ أو ليعلم هل عند غيره مثل ما عنده . ليكون الحكم أوكد أو خلافه فيندفع ، أو توقف في انتظار استظهار بزيادة كما يستظهر الحاكم بعد شهادة اثنين على جزم الحكم إن لم يصادف الزيادة لا على عزم الرد أو أظهر التوقف لئلا يكثر الإقدام على الرواية عن تساهل ، ويجب حمله على شيء من ذلك ; إذ ثبت منه قطعا قبول خبر الواحد وترك الإنكار على القائلين به .

              وأما رد حديث عثمان في حق الحكم بن أبي العاص فلأنه خبر عن إثبات حق لشخص فهو كالشهادة لا تثبت بقول واحد ، أو توقف لأجل قرابة عثمان من الحكم وقد كان [ ص: 123 ] معروفا بأنه كلف بأقاربه فتوقف تنزيها لعرضه ومنصبه من أن يقول متعنت : إنما قال ذلك لقرابته حتى ثبت ذلك بقول غيره ، أو لعلهما توقفا ليسنا للناس التوقف في حق القريب الملاطف ليتعلم منهما التثبت في مثله .

              وأما خبر أبي موسى في الاستئذان فقد كان محتاجا إليه ليدفع به سياسة عمر عن نفسه لما انصرف عن بابه بعد أن قرع ثلاثا كالمترفع عن المثول ببابه ، فخاف أن يصير ذلك طريقا لغيره إلى أن يروي الحديث على حسب غرضه بدليل أنه لما رجع مع أبي سعيد الخدري وشهد له قال عمر : إني لم أتهمك ولكني خشيت أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم .

              ويجوز للإمام التوقف مع انتفاء التهمة لمثل هذه المصلحة ، كيف ومثل هذه الأخبار لا تساوي في الشهرة والصحة أحاديثنا في نقل القول عنهم ؟ وأما رد علي خبر الأشجعي فقد ذكر علته وقال : كيف نقبل قول أعرابي بوال على ` عقبيه ؟ بين أنه لم يعرف عدالته وضبطه ، ولذلك وصفه بالجفاء وترك التنزه عن البول ، كما قال عمر في فاطمة بنت قيس في حديث السكنى : لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت .

              فهذا سبيل الكلام على ما ينقل من التوقف في الأخبار .

              الشبهة الثانية : تمسكهم بقوله تعالى : { ولا تقف ما ليس لك به علم } { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } وقوله تعالى { وما شهدنا إلا بما علمنا } وقوله تعالى : { إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة } والجهالة في قول العدل حاصلة .

              وهذا باطل من أوجه :

              الأول : أن إنكارهم القول بخبر الواحد غير معلوم ببرهان قاطع بل يجوز الخطأ فيه ، فهو إذا حكم بغير علم .

              الثاني : أن وجوب العمل به معلوم بدليل قاطع من الإجماع فلا جهالة فيه .

              الثالث : أن المراد من الآيات منع الشاهد عن جزم الشهادة بما لم يبصر ولم يسمع والفتوى بما لم يرو ولم ينقله العدول .

              الرابع : أن هذا لو دل على رد خبر الواحد لدل على رد شهادة الاثنين والأربعة والرجل والمرأتين والحكم باليمين ، فكما علم بالنص في القرآن وجوب الحكم بهذه الأمور مع تجويز الكذب فكذلك بالأخبار .

              الخامس : أنه يجب تحريم نصب الخلفاء والقضاة ; لأنا نتيقن إيمانهم فضلا عن ورعهم ولا نعلم طهارة إمام الصلاة عن الجنابة والحدث فليمتنع الاقتداء .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية