الطرف الثاني : في وأدناها الطرد الذي ينبغي أن ينكره كل قائل بالقياس وأعلاها ما في معنى الأصل الذي ينبغي أن يقر به كل منكر للقياس . بيان التدريج في منازل هذه الأقيسة من أعلاها إلى أدناها
وبيانه أن القياس أربعة أنواع : المؤثر ; ثم المناسب ، ثم الشبه ، ثم الطرد .
والمؤثر يعرف كونه مؤثرا بنص أو إجماع أو سبر حاصر ، وأعلاها المؤثر وهو ما ظهر تأثيره في الحكم أي الذي عرف إضافة الحكم إليه ، وجعله مناطا ، وهو باعتبار النظر إلى عين العلة وجنسها وعين الحكم وجنسه أربعة ; لأنه إما أن يظهر تأثير عينه في عين ذلك الحكم أو تأثير عينه في جنس ذلك الحكم أو تأثير جنسه في جنس ذلك الحكم أو تأثير جنسه في عين ذلك الحكم ، فإن أظهر تأثير عينه في عين ذلك الحكم فهو الذي يقال له : إنه في معنى الأصل وهو المقطوع به الذي ربما يعترف به منكرو القياس إذ لا يبقي الفرع والأصل مباينة إلا تعدد المحل ، فإنه إذا ظهر أن عين السكر أثر في تحريم عين الشرب في الخمر فالنبيذ ملحق به قطعا وإذا ظهر أن علة الربا في التمر الطعم فالزبيب ملحق به قطعا إذ لا يبقى إلا اختلاف عدد الأشخاص التي هي مجاري المعنى ، ويكون ذلك كظهور أثر الوقاع في إيجاب الكفارة على الأعرابي إذ يكون الهندي والتركي في معناه .
الثاني في المرتبة : أن يظهر تأثير عينه في جنس ذلك الحكم لا في عينه كتأثير أخوة الأب والأم في التقديم في الميراث فيقاس عليه ولاية النكاح ، فإن الولاية ليست هي عين الميراث .
لكن بينهما مجانسة في الحقيقة فإن هذا حق وذلك حق فهذا دون الأول ; لأن المفارقة بين جنس وجنس غير بعيد بخلاف المفارقة بين محل ومحل لا يفترقان أصلا فيما يتوهم أن له مدخلا في التأثير .
الثالث في المرتبة : أن يؤثر جنسه في عين ذلك الحكم ، كإسقاط قضاء الصلاة عن الحائض تعليلا بالحرج والمشقة ، فإنه ظهر تأثير جنس الحرج في إسقاط قضاء الصلاة كتأثير مشقة السفر في إسقاط قضاء الركعتين الساقطتين بالقصر ، وهذا هو الذي خصصناه باسم الملائم ، وخصصنا اسم المؤثر بما ظهر تأثير عينه .
الرابع في المرتبة : ما ظهر تأثير جنسه في جنس ذلك الحكم ، وهو الذي سميناه المناسب الغريب ; لأن الجنس الأعم للمعاني كونها مصلحة والمناسب مصلحة ، وقد ظهر أثر المصالح في الأحكام إذ عهد من الشرع الالتفات إلى المصالح ، فلأجل هذا الاستمداد العام من ملاحظة الشرع جنس المصالح اقتضى ظهور المناسبة تحريك الظن ، ولأجل شمة من الالتفات إلى عادة الشرع أيضا أفاد الشبه الظن ; لأنه عبارة عن أنواع من الصفات عهد من الشرع ضبط الأحكام بجنسها ، ككون الصيام فرضا في مسألة التثبيت وككون الطهارة تعبدا موجبها في غير محل موجبها وكون الواجب بدل الجناية على الآدمي في مسألة ضرب القليل على العاقلة بخلاف بناء القنطرة على الماء وأمثاله من الصفات فإن الشرع لم يلتفت إلى جنسه ، والمألوف من عادة الشرع هو الذي يعرف مقاصد الشرع ، والعادة تارة تثبت في جنس وتارة تثبت في عين .
ثم للجنسية أيضا مراتب بعضها [ ص: 321 ] أعم من بعض وبعضها أخص وإلى العين أقرب ، فإن أعم أوصاف الأحكام كونه حكما تنقسم إلى تحريم وإيجاب وندب وكراهة ، والواجب مثلا ينقسم إلى عبادة ، والعبادة تنقسم إلى صلاة وغير صلاة ، والصلاة تنقسم إلى فرض ونفل وما ظهر تأثيره في الفرض أخص مما ظهر تأثيره في الصلاة وما ظهر تأثيره في الصلاة أخص مما ظهر تأثيره في العبادة وما ظهر تأثيره في العبادة أخص مما ظهر في جنس الواجبات وما ظهر في جنس الواجبات أخص مما ظهر في جنس الأحكام ، وكذلك في جانب المعنى أعم أوصافه أن يكون وصفا تناط الأحكام بجنسه حتى يدخل فيه الأشباه ، وأخص منه كونه مصلحة حتى يدخل فيه المناسب دون الشبه ، وأخص منه أن يكون مصلحة خاصة كالردع والزجر أو معنى سد الحاجات أو معنى حفظ العقل بالاحتراز عن المسكرات ، فليس كل جنس على مرتبة واحدة ; فالأشباه أضعفها ; لأنها لا تعتضد بالعادة المألوفة إلا من حيث إنه من جنس الأوصاف التي قد يضبط الشرع الأحكام بها ; وأقواها المؤثر الذي ظهر أثر عينه في عين الحكم ، فإن قياس الثيب الصغيرة على البكر الصغيرة في ولاية التزويج ربما كان أقرب من بعض الوجوه من قياسه على ولاية المال فإن الصغر .
إن أثر في ولاية المال فولاية البضع جنس آخر ، فإذا ظهر أثره في حق الابن الصغير في نفس ولاية النكاح ربما كان أقرب من بعض الوجوه من قياسه على ولاية المال فقد عرفت بهذا أن الظن ليس يتحرك والنفس ليست تميل إلا بالالتفات إلى عادة الشرع في التفات الشرع إلى عين ذلك المعنى أو جنسه في عين ذلك الحكم أو جنسه ، وأن للجنسية درجات متفاوتة في القرب والبعد لا تنحصر فلأجل ذلك تتفاوت درجات الظن والأعلى مقدم على الأسفل والأقرب مقدم على الأبعد في الجنسية ، ولكل مسألة ذوق مفرد ينظر فيه المجتهد ، ومن حاول حصر هذه الأجناس في عدد وضبط فقد كلف نفسه شططا لا تتسع له قوة البشر ، وما ذكرناه هو النهاية في الإشارة إلى الأجناس ومراتبها وفيه مقنع وكفاية .