قد فصل تفصيل الشبهة ودحضها بالحجة إميل درمنغام الشبهة التي أجملها مونتيه بما لم نر مثله لغيره من كتاب الإفرنج حتى اغتر بكلامه كثير من المسلمين ; فإن كان حكيمنا السيد جمال الدين قال لبعض مجادلي النصرانية : إنكم فصلتم قميصا من رقاع العهد القديم وألبستموها للمسيح عليه السلام - فنحن نقول لهم : إنكم فصلتم قميصا آخر مما فهمتم من تاريخ الإسلام لا من نصوصه وحاولتم خلعها على محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وإنني أشرح هذه الشبهة بأوضح مما كتبه درمنغام وما بلغني عن كل أحد منهم ، ثم أكر عليها بالنقض والدحض فأقول :
( 1 ) قالوا : إن محمدا قد لقي بحيرى الراهب في مدينة بصرى بالشام ، وقالوا : إنه كان نسطوريا من أتباع آريوس في التوحيد وينكر ألوهية المسيح وعقيدة التثليث وإن محمدا لا بد أن يكون علم منه عقيدته ، وقالوا في بحيرى أيضا : إنه كان عالما فلكيا منجما وحاسبا ساحرا ، وإنه كان يعتقد أن الله ظهر له وأنبأه بأن سيكون هاديا لآل إسماعيل إلى الدين المسيحي .
بل سمعنا من بعض الرهبان أنه كان معلما لمحمد ومصاحبا له بعد رسالته ، وأن محمدا ما حرم الخمر إلا لأنه قتل أستاذه بحيرى وهو سكران ، وأمثال هذا من الافتراء والبهتان . وكل ما عرفه المسلمون من رواة السيرة النبوية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما خرج مع عمه أبي طالب إلى الشام وهو ابن تسع سنين وقيل 12 سنة رآه هذا الراهب مع قريش ورأى سحابة تظلله من الشمس ، وذكر لعمه أنه سيكون له شأن وحذره عليه من اليهود - وفي المسألة روايات أخرى بمعناها ضعيفة الأسانيد إلا رواية ليس فيها اسم للترمذي بحيرى وفيها غلط في المتن ، وليس في شيء منها أنه - صلى الله عليه وسلم - سمع من بحيرى شيئا من عقيدته أو دينه .
( 2 ) قالوا إن ورقة بن نوفل كان من متنصرة العرب العلماء بالنصرانية وأحد أقارب - يوهمون القارئ أنه - صلى الله عليه وسلم - أخذ عنه شيئا من علم أهل الكتاب - والذي صح من خبر خديجة ورقة هذا هو ما رواه الشيخان في الصحيحين وغيرهما من أن أخذته - صلى الله عليه وسلم - عقب إخباره إياها برؤية الملك في حراء إلى خديجة ورقة هذا وأخبرته خبره وكان شيخا قد عمي ولم يلبث بعد ذلك أن توفي ولم يثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رآه قبل ذلك ( وسأذكر نص الحديث في آخر هذا المبحث ) وقد استقصى المحدثون والمؤرخون كل ما عرف عن ورقة هذا مما صح سنده ومما لم يصح له سند كدأبهم في كل ما له علاقة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والإسلام ، فلم يذكر أحد منهم أنه عرف عنه دعوة إلى النصرانية أو كتابة فيها .
وإنما ورد في بعضها أنه قال حين علم من خبر خديجة محمد : إنه هو النبي المنتظر الذي بشر به المسيح عيسى ابن مريم . وفي بعضها أنه عاش حتى رأى بلالا يعذبه [ ص: 141 ] المشركون ليرجع عن الإسلام ولكن هذه الرواية شاذة مخالفة لحديث عائشة ، الصحيح أنه كان عند بدء الوحي أعمى ولم ينشب أي لم يلبث أن مات ، وقد كان تعذيب بلال بعد إظهار دعوة النبوة ودخول الناس فيها ، وقد كان هذا بعد بدء الوحي بثلاث سنين - وإميل درمنغام قد غلط فيما نقله من خبر فترة الوحي لاختلاط الروايات عليه فيها وعدم اطلاعه على ما دون في كتب الحديث منها . وإنما كان هم المحدثين في خبر ورقة أن يعلموا أنه كان صحابيا أم لا ، فإن الصحابي هو من لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد البعثة مؤمنا به ، ولو بلغهم عنه أي شيء من علمه بالتوراة أو الإنجيل لنقلوه .
( 3 ) ذكروا ما كان من انتشار اليهودية والنصرانية في بلاد العرب قبل الإسلام وتنصر بعض فصحاء العرب وشعرائهم كقس بن ساعدة الأيادي ، وإشادة هؤلاء بما كانوا يسمعون من علماء أهل الكتاب عن قرب ظهور النبي الذي بشر به وأمية بن أبي الصلت موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء . وقد نشرنا بعض ما نقل عنهم في التوراة والأناجيل وكتب النبوات في تفسير ( الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ) ( 157 ) من سورة الأعراف .
فأما القس فقد مات قبل البعثة . وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رآه قبل البعثة بزمن طويل يخطب الناس في سوق عكاظ على جمل له أورق ، بكلام له مونق ، قال فيه : إن لله دينا خيرا من دينكم الذي أنتم عليه ، ونبيا قد أظلكم زمانه ، وأدرككم أوانه ، فطوبى لمن أدركه فاتبعه ، وويل لمن خالفه - والروايات في هذا ضعيفة ، وتعددها يدل على أن لها أصلا .
وأما فهو شاعر مشهور . قال أمية بن أبي الصلت الثقفي أبو عبيدة : اتفقت العرب على أن أمية أشعر ثقيف ، وقال : حدثني عمي قال : كان الزبير بن بكار أمية في الجاهلية نظر الكتب وقرأها ولبس المسوح تعبدا وكان يذكر إبراهيم وإسماعيل والحنيفية ، وحرم الخمر وتجنب الأوثان وطمع في النبوة لأنه قرأ في الكتب أن نبيا يبعث بالحجاز فرجا أن يكون هو ، فلما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - حسده فلم يسلم . وهو الذي رثى قتلى بدر ( المشركين ) بالقصيدة التي أولها :
ماذا ببدر والعقن قل من مرازبة جحاجح
كل دين يوم القيامة عند الله إلا دين الحنيفة زور
( 4 ) سلمان الفارسي - رضي الله عنه - كان فارسيا مجوسيا فتنصر على يد بعض الرهبان وصحب غير واحد من عبادهم وسمع منهم أو من آخرهم بقرب ظهور النبي الذي بشر به إسلام عيسى والأنبياء من العرب فقصد بلاد العرب وبيع لبعض يهود يثرب ظلما وعدوانا ولم ير النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا بعد الهجرة فأسلم وكاتب سيده . وفي قصته روايات متعارضة ، هذا هو المراد منها لدرمنغام وغيره .
( 5 ) ذكروا ما كان من رحلة تجار قريش في الشتاء إلى اليمن وفي الصيف إلى الشام واجتماعهم بالنصارى في كل منهما كلما مروا بدير أو صومعة للرهبان ، وكان هؤلاء النصارى يتحدثون بقرب ظهور نبي من العرب .
( 6 ) زعم درمنغام أنه كان يوجد بمكة نفسها أناس من اليهود والنصارى ولكنهم كانوا عبيدا وخدما لأن رؤساء قريش لم يكونوا يسمحون لهم أن يسكنوا في مكة حرمهم المقدس الخاص بوثنيتهم وأصنامهم . وكان هؤلاء يسكنون في أطراف مكة ( ( في المنازل البعيدة عن الكعبة المتاخمة للصحراء ) ) ! ! وكانوا يتحدثون بقصص عن دينهم لا تصل إلى مسامع رؤساء قريش وعظمائهم أو ما كانوا يحفلون بها لسماع أمثالها في رحلاتهم الكثيرة . ولكنه ذكر أن أبا سفيان عتب على كثرة تكريره لما يذكره الرهبان من هذا الأمر . أمية بن أبي الصلت
فهذه مقدمات يذكرها كتاب الإفرنج لتعليل ما ظهر به محمد - صلى الله عليه وسلم - من دعوى النبوة على طريقهم في الاستنباط وما يسمونه النقد التحليلي ، ويقرنون بها مقدمات أخرى في وصف حالته النفسية والعقلية وحالة قومه وما استفاده منها من تأثير وعبرة ، فنلخصها مضمومة إلى ما قبلها مع الإلمام بنقدها .
( 7 ) قال درمنغام في كفالة أبي طالب لمحمد بعد وفاة جده : إنه لم يكن غنيا فلم يتح له تعليم الصبي الذي بقي أميا طول حياته ( يوهم القارئ أن أولاد الموسرين بمكة كانوا يتعلمون كأن هنالك مدارس يعلم فيها النشء بالأجور كمدارس بلاد الحضارة وهذا باطل لا أصل له - ثم قال ) :
( ( ولكنه كان يستصحبه وإياه في التجارة فيسير والقوافل خلال الصحراء يقطع هذه الأبعاد المتنائية وتحدق عيناه الجميلتان بمدين ووادي القرى وديار ثمود وتستمع أذناه المرهفتان إلى حديث العرب والبادية عن هذه المنازل وحديثها وماضي نبئها . ويقال إنه في إحدى هذه الرحلات إلى الشام التقى بالراهب بحيرى في جوار مدينة بصرى ، وأن الراهب رأى فيه [ ص: 143 ] علامات النبوة على ما تدله عليه أنباء كتبه . وفي الشام عرف محمد أحبار الروم ونصرانيتهم وكتابهم ومناوأة الفرس من عباد النار لهم وانتظار الوقيعة بهم ) ) .
كل ما ذكره درمنغام هنا فهو من مخترعات خياله ومبتدعات رأيه إلا مسألة بحيرى الراهب فأصلها ما ذكرنا ، وكأنه لم يحفل بإثباتها لما يعلمه من مفتريات رجال الكنيسة فيها .
فمحمد - صلى الله عليه وسلم - لم يذهب مع عمه إلى التجارة في الشام إلا وهو طفل كما تقدم وقد أعاده إلى مكة قبل إتمام رحلته . ثم سافر إليها في تجارة وهو شاب مرة واحدة ولم يتجاوز خديجة سوق بصرى في المرتين . والقوافل التي تذهب إلى الشام لم تكن تمر بمدين وهي في أرض سيناء . ولم تكن هذه القوافل تضيع شيئا من وقتها للبحث مع العرب أو الأعراب في طريقها عن أنبائها والتاريخ القديم لبلادها ، ولم يعرف عن تجارها أنهم كانوا يعنون بلقاء أحبار النصارى ومباحثتهم في دينهم وكتبهم ، فمن أين جاء لدرمنغام أن محمدا هو الذي كان يشتغل في تلك التجارة بالبحث عن الأمم والتواريخ والكتب والأديان ويعنى بلقاء رؤسائها والبحث معهم ؟ إنما اخترع هذا لأنه لا يستطيع تعليل ما جاء في القرآن من قصص الرسل إلا به وكذلك الإنباء بغلب الروم للفرس كما سيأتي . وسترى ما نفند به تعليله وتحليله وتركيبه على تقدير صحة ما زعمه كله .
( 8 ) ثم ذكر درمنغام أن العرب ولا سيما أهل مكة كانوا يصرفون معظم أوقاتهم بعد ما يكون من تجارة أو حرب في الاستمتاع باللذات من السكر والتسري وغير ذلك ، وأن التاريخ يشهد بأن محمدا كان يراهم ولم يكن يشاركهم في ذلك لا لفقره وضيق ذات يده قال : ( ( لكن نفس محمد كانت شغفة بأن ترى وأن تسمع وأن تعرف ، وكأن حرمانه من التعليم الذي كان يعلمه أنداده جعله أشد للمعرفة شوقا وبها تعلقا ، كما أن النفس العظيمة التي تجلت من بعد آثارها ، وما زال يغمر العالم سلطانها ، كانت في توقها إلى الكمال ترغب عن هذا اللهو الذي يطمح إليه أهل مكة إلى نور الحياة المتجلي من كل مظاهر الحياة لمن هداه الحق إليها لاستكناه ما تدل هذه المظاهر عليه وما تحدث الموهوبون به ) ) .
هذا الخبر من مخترعات درمنغام فمحمد لم يكن شغوفا بأن يرى ما يفعله فساق قومه من فسوق وفجور ، ولا أن يسمع ذلك ، ولا يتحرى أن يعرفه ، وقد ثبت عنه أنه لم يحضر سمرهم ولهوهم إلا مرتين ألقى الله عليه النوم في كل منهما حتى طلعت الشمس فلم ير ولم يسمع شيئا ، وقد بطل بهذا ما علل به الخبر على ما فيه من المدح المتضمن لدسيستين ( إحداهما ) أن أنداده في قريش كانوا متعلمين وكان هو محروما مما لقنوه من العلم وكان حرمانه هذا يزيده شغفا بالبحث والاستطلاع ( والثانية ) أن نفسه كانت بسبب هذا تزداد طموحا إلى نور الحياة المتجلي في جميع مظاهرها لاستكناه ما تدل عليه هذه المظاهر ، فهذه مدحة غرضه منها تعليل ما انبثق في نفسه بعد ذلك من الوحي ، وسترى بطلانه .
[ ص: 144 ] ( 9 ) ثم ذكر درمنغام مسألة أبناء النبي - صلى الله عليه وسلم - القاسم والطيب والطاهر وهو يشك في وجودهم ويقول : إن تكنيته بأبي القاسم لا تدل على وجود ولد له بهذا الاسم وإنه إن صح أنهم ولدوا فقد ماتوا في المهد ، والتحقيق أنه ولد له غلام سماه القاسم وكني به وأنه مات طفلا ، وقيل عاش إلى أن ركب الدابة وأن الطيب والطاهر لقبان للقاسم . ولكن درمنغام قد كبر مسألة موت هؤلاء الأولاد الذين يشك في وجودهم . وبنى عليها حكما . وأثار وهما ، قال بعد أن زعم أن محمدا تبنى لأنه لم يطق على الحرمان من البنين صبرا . زيد بن حارثة
( ( فمن حق المؤرخ أن يجعل لهذا الحادث بل الحوادث الثلاثة التي أصابت محمدا في بنيه ما هي جديرة بأن تتركه في حياته وفي تفكيره من أثر . والأمر كذلك بنوع خاص إن كان محمد أميا ، فلم تكن المضارات الجدلية ( كذا ) لتصرفه عن التأثير بعبر الحوادث ودروسها ، وحوادث أليمة كوفاة أبنائه جديرة بأن تستوقف تفكيره وأن تلفته في كل واحدة منها لما كانت تتقرب به إلى أصنام خديجة الكعبة وتنحر لهبل واللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى تريد أن تفتدي نفسها من ألم الثكل فلا تفيد القربان ولا تجدي النحور ) ) .
( ( والأمر كان كذلك لا ريب أن كانت عبادة الأصنام قد بدأت تتزعزع في النفوس تحت ضغط النصرانية الآتية من الشام منحدرة إليها من الروم ومن اليمن متخطية إليها من خليج العرب ( البحر الأحمر ) من بلاد الحبشة ) ) .
غرض درمنغام من تكبير المصيبة بموت الأبناء المشكوك في ولادتهم هو أن يجعلها مسوغة لما اختلقه من توسل إلى الأصنام بالقرابين لينقذوها من معصية الثكل ، ثم يستنبط من ذلك زعزعة إيمانها وإيمان بعلها بعبادتها الذي كان سببه تأثير النصرانية في خديجة مكة وغيرها من بلاد العرب ، ثم ليجعل ذلك من الأسباب التحليلية لتعليل الوحي لمحمد - صلى الله عليه وسلم - والحق أنه ما تبنى زيدا إلا لأنه آثر أن يكون عبدا له على أن يكون حرا مع والده وعمه عندما جاءا مكة لافتدائه بالمال . فقال لهما : ( ( ادعوه فخيروه فإن اختاركم فهو لكم فداء ) ) ثم دعاه فسأله عن أبيه وعمه فعرفهما قال : ( ( فأنا من قد علمت وقد رأيت صحبتي لك فاخترني أو اخترهما ) ) فقال زيد : ما أنا بالذي أختار عليك أحدا . أنت مني بمكان الأب والعم . فقالا : ويحك يا زيد أتختار العبودية على الحرية وعلى أبيك وعمك وأهل بيتك ؟ قال : قد رأيت من هذا الرجل شيئا ما أنا الذي أختار عليه أحدا . فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك أخرجه إلى الحجر فقال : ( ( اشهدوا أن زيدا ابني يرثني وأرثه ) ) فلما رأى أبوه وعمه طابت أنفسهما . فدعي زيد بن محمد حتى جاء الله بالإسلام .
رواه ابن سعد ونحوه في سيرة . ابن إسحاق
هذا وإن محمدا لم يكن جزوعا عند موت ولد ولا غيره بل كان أصبر الصابرين وإن [ ص: 145 ] لم تيأس - بموت خديجة القاسم - من الله أن يمن عليها بولد آخر ، ولم تنحر للأصنام شيئا ، وإن اللات كانت صخرة في الطائف تعبدها ثقيف ولم تكن من أصنام قريش ، والعزى كانت شجرة ببطن نخلة تعبدها قريش وكنانة وغطفان ، ومناة كانت صنما في قديد لبني هلال وهذيل وخزاعة .
وقد كان ما ذكره من ضعيف الوثنية في ذلك العهد - وزعم أنه سببه انتشار النصرانية - جديرا بأن يمنع وهي من أعقل العرب وأسلمهم فطرة ، وأقربهم إلى الحنفية ملة خديجة إبراهيم أن تهاجر إلى هذه الأصنام لتنحر لها وتتقرب إليها لترزقها غلاما ، فإن لم يمنعها عقلها وفطرتها فأجدر ببعلها المصطفى أن يمنعها من ذلك وهو عدو الوثنية والأصنام من طفولته كما يعترف درمنغام ، ولكن اتباع الهوى ينسي صاحبه ما لم يكن لينساه لولاه .
( 10 ) زعم درمنغام أن ما ذكره من تغلغل النصرانية في بلاد العرب أوجد فيها حالة نفسية أدت إلى زيادة إمعانهم فيما كانوا يسمونه في الجاهلية التحنث أو التحنف وفرع على ذلك قوله :
( وكان محمد يجد في التحنث طمأنينة لنفسه أن كان له بالوحدة شغف ، وأن كان يجد فيها الوسيلة إلى ما برح شوقه يشتد إليه من نشدان المعرفة واستلهام ما في الكون من أسبابها فكان ينقطع كل رمضان طول الشهر في غار حراء بجبل أبي قبيس مكتفيا بالقليل من الزاد يحمل إليه ليمضي أياما بالغار طويلة في التأمل والعبادة بعيدا عن ضجة الناس وضوضاء الحياة ) ) .
وأقول : إن روايات المحدثين تفيد أنه حبب إليه التحنث في غار حراء في العام الذي جاءه فيه الوحي وكان هو يحمل الزاد وما كان أحد يحمله إليه ، وما ذكره من تعبده فيه شهر رمضان كل سنة إنما كان في زمن فترة الوحي كما سيأتي : ابن إسحاق
وهاهنا وصل درمنغام إلى آخر المقدمات التي تتصل بالنتيجة المطلوبة له فأرخى لخياله العنان ونزع من جواده اللجام ، ونخسه بالمهارة ، فعدا به سبحا ، وجمح به جمحا ، وقدحت حوافره له قدحا ، وأثارت له نقعا ، وأذن لشاعريته الفرنسية أن تصف محمدا عند ذلك الغار بما تحدثه في نفسه مشاهد نجوم الليل وما تسعفه به شمس النهار ، وما تصور أنه كان يراه في تلك القنة من الجبل من صحارى وقفار ، وخيام وآبار ، ورعاة تهش على غنمها حيث لا أشجار ، حتى ذكر البحار على بعد البحار وقد أتقن التخيل الشعري ، ولكنه لم يوافق به الوصف الموضعي ، ثم قال مصورا لما يبتغيه من مشاهداته - صلى الله عليه وسلم - :
( ( وهذه النجوم في ليالي صيف الصحراء كثيرة شديدة البريق حتى ليحسب الإنسان أن يسمع بصيص ضوئها وكأنه نغم نار موقدة .
( ( حقا ! إن في السماء لشارات للمدركين . وفي العالم غيب بل العالم غيب كله ، لكن ! [ ص: 146 ] ألا يكفي أن يفتح الإنسان عينيه ليرى ، وأن يرهف أذنه ليسمع ؟ ليرى حقا ، وليسمع الكلم الخالد ! لكن للناس عيونا لا ترى وآذانا لا تسمع . . . أما هو فحسب أنه يسمع ويرى وهل تحتاج لكي تسمع ما وراء السماء من أصوات إلا إلى قلب خالص ونفس مخلصة وفؤاد ملئ إيمانا ؟
( ( ومحمد في ريب من حكمة الناس فهو لا يريد أن يعرف إلا الحق الخالص ، الذي لا يأتيه من بين يديه ولا من خلفه باطل ، وهو لا يستطيع العيش إلا بالحق ، والحق ليس فيما يرى حوله ، فحياة القرشيين ليست حقا ، وربا المرابين ونهب البدو ولهو الخلعاء وكل ما إلى ذلك لا شيء من الحق فيه ، والأصنام المحيطة بالكعبة ليست حقا وهبل الإله الطويل الذقن الكثير العطور والملابس ليس إلها حقا .
( ( إذا فأين الحق وما هو ) ) ؟
( ( وظل محمد يتردد على حراء في رمضان كل عام سنوات متتالية وهناك كان يزداد به التأمل ابتغاء الحقيقة حتى لكان ينسى نفسه ، وينسى طعامه ، وينسى كل ما في الحياة لأن هذا الذي يرى في الحياة ليس حقا وهناك كان يقلب في صحف ذهنه كل ما وعى ، فيزداد عما يزاول الناس من ألوان الظن رغبة وازورارا ، وهو لم يكن يطمع في أن يجد في قصص الأحبار وفي كتب الرهبان الحق الذي ينشد ، بل في هذا الكون المحيط به : في السماء ونجومها وقمرها وشمسها ، وفي الصحراء ساعات لهيبها المحرق تحت ضوء الشمس الباهرة اللألاء ، وساعات صفوها البديع إذ تكسوها أشعة القمر أو أضواء النجوم بلباسها الرطب الندي ، وفي البحر وموجه وفي كل ما وراء ذلك مما يتصل بالوجود وتشمله وحدة الوجود - في هذا الكون كان يلتمس الحقيقة العليا ، وابتغاء إدراكها كان يسمو بنفسه ساعات خلوته ليتصل بهذا الكون وليخترق شغاف الحجب إلى مكنون سره .
قال درمنغام : فلما كانت سنة 610 م أو نحوها كانت الحال النفسية التي يعانيها ( محمد ) على أشدها فقد أبهظت عاتقه العقيدة بأن أمرا جوهريا ينقصه وينقص قومه ، وأن الناس نسوا هذا الأمر الجوهري وتشبث كل بصنم قومه وقبيلته ، وخشي الناس الجن والأشباح والبوارح وأهملوا الحقيقة العليا ، ولعلهم لم ينكروها ولكنهم نسوها نسيانا هو موت الروح وقد خلصت نفس ( ( محمد ) ) من كل هذه الآراء التافهة ، ومن كل القوى التي تخضع لقوة غيرها ومن كل كائن ليس مظهرا للكائن الواحد .
[ ص: 147 ] ولقد عرف أن المسيحيين في الشام ومكة لهم دين أوحي به ، وأن أقواما غيرهم نزلت عليهم كلمة الله وأنهم عرفوا الحق ووعوه أن جاءهم علم من أنبياء أوحي إليهم به ، وكلما ضل الناس بعثت السماء إليهم نبيا يهديهم إلى الصراط المستقيم ويذكرهم بالحقيقة الخالدة .
وهذا الدين الذي جاء به الأنبياء في كل الأزمان دين واحد وكلما أفسده الناس جاءهم رسول من السماء يقوم عوجهم . وقد كان الشعب العربي يومئذ في أشد تيهاء الضلال . أفما آن لرحمة الله أن تظهر فيهم مرة أخرى وأن تهديهم إلى الحق ) ) ؟
( ( وتزايدت رغبة محمد عن الاجتماع بالناس ، ووجد في وحدة غار حراء مسرة تزداد كل يوم عمقا ، وجعل يقضي الأسابيع ومعه قليل من الزاد وروحه تزداد بالصوم والسهر والإدمان على تقليب فكرته صقالا وحدة . ونسي النهار والليل والحلم واليقظة ، وجعل يقضي الساعات الطوال جاثيا في الغار ، أو مستلقيا في الشمس ، أو سائرا بخطى واسعة في طرق الصحراء الحجرية ، وكأنه يسمع الأصوات تخرج من خلال أحجارها تناديه مؤمنة برسالته .
( ( وقضى ستة أشهر في هذه الحال حتى خشي على نفسه عاقبة أمره فأسر بمخاوفه إلى فطمأنته وجعلت تحدثه بأنه الأمين وأن الجن لا يمكن أن تقترب منه وفيما هو يوما نائم بالغار جاءه ملك فقال له : اقرأ ، قال ( ( ما أنا بقارئ ) ) وكان هذا أول الوحي وأول النبوة . خديجة
( ( وهنا تبدأ حياة جدة روحية قوية غاية القوة ، حياة تأخذ بالأبصار والألباب ولكنها حياة تضحية خالصة لوجه الله والحق والإنسانية ) ) .
أقول : إن كل ما هنا من خير أو جله فهو غير صحيح ، فمن أين علم هذا الإفرنسي أن محمدا نسي الليل والنهار ، والحلم واليقظة ، وأنه كان يقضي الساعات الطوال جاثيا في الغار أو مستلقيا في الشمس إلخ وأنه قضى ستة أشهر في هذه الحال - قد افترى في الأخبار ليستنبط منها أنه صار صلوات الله عليه مغلوبا على عقله ، غائبا عن حسه . وإننا ننقل هنا أصح الأخبار في خبر تحنثه في الغار الليالي ذوات العدد - من شهر رمضان في تلك السنة لا فيما قبلها - لتفنيد مفترياته وللاستغناء بها عما نقله من الخلط في صفة الوحي من الفصل الآتي - وهو ما رواه الشيخان البخاري ومسلم في صحيحهما وهذا نص رواية - رضي الله عنه - . البخاري
[ ص: 148 ] ( باب - ) كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم
افتتح الباب بل الكتاب كله بروايته الحديث : ( ) ثم قال : حدثنا إنما الأعمال بالنيات عبد الله بن يوسف قال : أخبرنا مالك عن عن أبيه عن هشام بن عروة - - رضي الله عنها - عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنه - سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله كيف يأتيك الوحي ؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي ، فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول ) قالت الحارث بن هشام عائشة - رضي الله عنها - : ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا . - أن
حدثنا قال حدثنا يحيى بن بكير الليث عن عقيل عن عن ابن شهاب عروة بن الزبير أنها قالت : أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي [ ص: 149 ] الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبب إليه الخلاء وكان يخلو عائشة أم المؤمنين بغار حراء فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ، ثم يرجع إلى فيتزود لمثلها ، حتى جاءه الحق وهو في خديجة غار حراء فجاءه الملك ، فقال : اقرأ قال : ما أنا بقارئ قال : فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني ، فقال : اقرأ ، قلت : ما أنا بقارئ ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني ، فقال : اقرأ ، فقلت : ما أنا بقارئ ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني ، فقال : ( اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم ) ( 96 : 1 - 3 ) فرجع بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرجف فؤاده فدخل على - رضي الله عنها - فقال : ( ( زملوني زملوني ) ) فزملوه حتى ذهب عنه الروع [ ص: 150 ] فقال خديجة بنت خويلد لخديجة وأخبرها الخبر : ( ( لقد خشيت على نفسي ) ) فقالت : كلا والله ما يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق . فانطلقت به خديجة حتى أتت به خديجة ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة ، وكان امرأ تنصر في الجاهلية ، وكان يكتب الكتاب العبراني ، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب وكان شيخا كبيرا قد عمي فقالت له : يا ابن عم اسمع من ابن أخيك ، فقال له خديجة ورقة : يا ابن أخي ماذا ترى ؟ فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخبر ما أرى ، فقال له ورقة : هذا الناموس الذي نزل الله على موسى يا ليتني فيها جذعا . ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 151 ] أومخرجي هم ؟ قال : نعم لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي . وإن يدركني يومك أنصر نصرا مؤزرا . ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي . عن
قال وأخبرني ابن شهاب أبو سلمة بن عبد الرحمن قال وهو يحدث عن فترة الوحي فقال في حديثه ( ( بينا أنا ماش إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني جابر بن عبد الله الأنصاري بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فرعبت منه فرجعت فقلت : زملوني فأنزل الله تعالى : ( ياأيها المدثر قم فأنذر ) إلى قوله : ( والرجز فاهجر ) ( 74 : 1 - 5 ) فحمي الوحي وتتابع ا هـ . أن
( وأقول ) أخرج حديث البخاري جابر في تفسير سورة المدثر من طرق في بعضها أن أولها أول ما أنزل مطلقا وفي البعض الآخر أنها من حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - عن فترة الوحي كالتي هنا وقد عبر - صلى الله عليه وسلم - عن رعبه من رؤية الملك بقوله : ( ( ) ) وفي رواية أخرى ( ( فجئثت منه رعبا ) ) أي فزعت وخفت وهو بضم الجيم وكسر الهمزة بالتاء للمفعول . فجئثت منه حتى هويت إلى الأرض
[ ص: 152 ] هذا هو المعتمد عند المحدثين في أول ما نزل من القرآن ، والمشهور أنه نزل بعد أول المدثر سورة المزمل تامة وبعدها بقية سورة المدثر . وقال مجاهد : أول ما نزل سورة ( ن والقلم ) ( 68 : 1 ) وهو غلط ، وروي عن علي كرم الله وجهه أن أول ما نزل سورة الفاتحة واعتمده شيخنا في توجيه كونها فاتحة الكتاب ، ويمكن أن يراد أنها أول سورة تامة بعد بدء الوحي بالتمهيد التكويني ثم بالأمر بالتبليغ الإجمالي وتلاها فرض الصلاة ونزول سورة المزمل أو نزلتا في وقت واحد .