خلاصة البحث
راجع ما تقدم من الكلام على الوحي والنبوة وآيات الأنبياء عندنا وعند النصارى ، ومن الكلام في تنفيذ شبهة الوحي النفسي ، والكلام في إعجاز القرآن اللغوي والعلمي ، وما أحدثه من الانقلاب البشري من كل وجه ، ثم أضف إليها هذه العشرة الأنواع من مقاصد القرآن ، في إصلاح البشر وتكميل نوع الإنسان ، من جميع نواحي التشريع الروحي والأدبي والاجتماعي [ ص: 240 ] والمالي والسياسي ، وهي التي اشتدت حاجة الشعوب والدول في هذا العصر إليها ، موضحة بأصول وقواعد هي أصح وأكمل وأكفل للمصالح العامة ، ودفع المفاسد القديمة والطارئة ، من كل ما سبقها من تعاليم الأنبياء ، وفلسفة الحكماء ، وقوانين الملوك والحكام ، على اختلاف الأعصار ، مع العلم القطعي من تاريخ محمد - صلى الله عليه وسلم - أنه كان أميا يؤثر بطبعه عيشة العزلة ، فلم يتفق له الاطلاع على كتب الأنبياء ولا غيرها من الكتب والقوانين ، وأنه لم يعرف عنه أنه كان يبحث في شيء من العلوم ، ولا أنه نطق بشيء من مسائلها ، والعلم بأنه إنما جاء بها في هذا القرآن بعد استكمال سن الأربعين وهي سن لم يعرف في استعداد أنفس البشر ومدركات عقولهم ، ولا في تاريخهم أن صاحبها يأتنف مثلها ائتنافا لم يسبق له البدء بشيء منه في أنف عمره ، وآنفة شبابه وشرخه ، راجع هذا كله وتأمله جملة واحدة تجد عقلك مضطرا إلى الجزم بأن هذا كله فوق استعداد بشر أمي أو متعلم ، وأنه وحي من الله تعالى .
فإذا فرضنا أنه يحتمل أن يكون قد تسرب إلى ذهنه بعض مسائلها من أفواه عقلاء قومه ، أو غيرهم ممن لقي في أسفاره القليلة ، أو أنه فكر في حاجة البشر إلى مثلها مما أدركه بذكائه الفطري من سوء حالهم . فهل يعقل أن تكون تلك الفلتات الشاردة ، وهذه الخطرات الواردة ، تبلغ هذا الحد من التحقيق والوفاء بحاجة الأمم كلها ، وأن تظل كلها مكتومة من سن الصبا وعهد حب الظهور إلى أن تظهر في سن الكهولة ، بهذه الروعة من البيان ، وسلطان البلاغة على القلوب ، وقوة البرهان في العقول ، فتحدث هذه الثورة في الأمة العربية المغيرة لطباعها ، المبدلة لأوضاعها ، بحيث تسود بها شعوب المدنية كلها ويتلو ذلك ما قصه التاريخ من الانقلاب في العالم كله ؟ وأعجب من هذا كله أن يظهر في هذا العصر أن أمم العلم والحضارة العجيبة أشد حاجة إليها ممن قبلهم ؟ كلا إن هذا لم يعرف مثله في البشر .
وإذ قد ثبت هذا ؛ فالواجب على كل من بلغه من البشر أن يتبعه ويهتدي به لتكميل إنسانيته وإعدادها لسعادة الدنيا والآخرة . فإن اعترضته شبهة عليه فليبحث عنها أو لينبذها ، فما كان لعاقل ثبت عنده نفع علم الطلب أن يترك مراعاته في حفظ صحته أو مداواة مرضه لشبهة في بعض مسائله ، أو خيبة الأطباء في بعض معالجاتهم للمرضى ، وإن حاجة البشر إلى طب الأرواح والاجتماع ، لأشد من حاجتهم إلى طب الأبدان . ( قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين ) ( الأنعام 6 : 149 ) .
( ( رضيت بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيا ورسولا ) )
( ونعود إلى نسق التفسير باسم الله وحمده ) .