[ ص: 388 ] هذه الآيات الثلاث في بيان العبرة بآخر القصة ، وما كان من عاقبة تأييد الله لموسى وأخيه الضعيفين بأنفسهما ، على فرعون وقومه أعظم أهل الأرض قوة ودولة .
( وجاوزنا ببني إسرائيل البحر ) يقال : جاز المكان وجاوزه وتجاوزه إذا ذهب فيه وقطعه حتى خلفه وراءه . وأصله من جوز الطريق ونحوه وهو وسطه ، وتسمية الجوزاء مأخوذة من تعرضها في جوز السماء أي وسطها ، ومجاوزة الله البحر بهم عبارة عن كونهم جاوزوه بمعونته تعالى وقدرته وحفظه ، إذ كان آية من آياته لنبيه موسى عليه السلام بفرقه تعالى بهم البحر وانفلاقه لهم كما تقدم في سورة البقرة والأعراف : ( فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا ) أي لحقهم فأدركهم ظلما وعدوانا عليهم ليفتك بهم ، أو يعيدهم إلى مصر حيث يتعبدهم ويسومهم سوء العذاب ( حتى إذا أدركه الغرق ) أي فخاض البحر وراءهم حتى إذا وصل إلى حد الغرق: ( قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل ) أي قال قبل أن يغرق ، وهو يدل على أن البحر لم يطبق عليه دفعة واحدة: آمنت أنه لا إله بالحق إلا الرب الذي آمنت به جماعة بني إسرائيل بدعوة موسى : ( وأنا من المسلمين ) أي وأنا فرد من جماعة المذعنين له المنقادين لأمره ، وبعد ما كان من كفر الجحود بآياته والعناد لرسوله . يعني أنه جمع بين الإيمان الذي هو التصديق بالقلب ، والإسلام الذي هو الإذعان والخضوع بالفعل ، بدون امتياز لعظمة الملك ، وكان من قبل جاحدا ، أي مصدقا غير مذعن ولا خاضع ، بدليل قوله تعالى فيه وفي آله: ( وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ) ( 27 : 14 ) يعني آيات موسى . وهذه هي العاقبة ، وقد أجيب فيها فرعون عن دعواه بقوله تعالى الذي يعرف بلسان الحال أو بقول جبريل ( عليه السلام ) :
آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ) أي أتسلم الآن أو تدعي الإسلام وإذعان الطاعة والانقياد ، حيث لا محل له ولا إمكان ، بما حال دونه من الهلاك ، وقد عصيت قبله وكنت من المفسدين في الأرض الظالمين للعباد ، والمراد : أن دعوى الإسلام الآن باطلة ، ( ، فكيف يقبل وقد صار اضطرارا لا معنى لقبوله ; لأنه انفعال لا فعل لصاحبه ، وجملة القول أن إسلامه كان كما قال الشاعر : والإيمان بدون الإسلام مع إمكانه لا يقبل
أتت وحياض الموت بيني وبينها وجادت بوصل حين لا ينفع الوصل
وقد تقدم مثل هذا الاستفهام الإنكاري في هذه السورة ، وهو قوله تعالى في المكذبين بوعد الله تعالى ووعيده بما كان يحملهم على استعجال عذابه: ( أثم إذا ما وقع آمنتم به آلآن وقد كنتم به تستعجلون ) ( 51 ) وسيأتي بعد بضع آيات منها أن الذي هو نهاية أجل القوم ، كما أنه لا ينفع عند موت الشخص ، كما تقدم في قوله [ ص: 389 ] تعالى : ( الإيمان لا ينفع عند وقوع عذاب الاستئصال وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار ) ( 4 : 18 ) ومن البديهي أن . على أن اليائس من الشيء بالفعل ، لا يعقل أن يكون صادقا في ادعائه إياه أو طلبه له بالقول ، ولعل التوبة من الكفر والمعصية إنما تنفع بالرجوع إلى الطاعة فرعون أراد بقوله حينئذ أنه من جماعة المسلمين أنه موطن نفسه على أن يكون منهم إن نجاه الله تعالى ، وأنه كان يرجو بهذا أن ينجيه الله تعالى كما نجاه وقومه من كل نازلة من عذاب الله حلت به وبقومه ، إذ كان يقول لموسى : ( ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل ) ( 7 : 134 ) ولكن تلك النوازل إنما كانت لأجل إرسال بني إسرائيل مع موسى فهي غايتها ، ولم تكن عقابا على الإصرار على كفر الجحود والعناد ، الذي هو شر أنواع الكفر وأدلها على خبث طوية صاحبه ، كهذا العقاب الأخير بعد نجاة بني إسرائيل منه رغم أنفه .
فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية ) قال ( أبو جعفر ابن جرير الطبري : يقول تعالى ذكره لفرعون : فاليوم نجعلك على نجوة من الأرض ببدنك ، ينظر إليك من كذب بهلاكك ) لتكون لمن خلفك آية ) يقول: لتكون لمن بعدك من الناس عبرة يعتبرون بك فينزجرون عن معصية الله والكفر به ، والسعي في أرضه بالفساد . والنجوة : الموضع المرتفع من الأرض ومنه قول أوس بن حجر :
فمن بعقوته كمن بنجوته والمستكن كمن يمشي بقرواح
ثم ذكر رواته عمن قال بهذا القول . وقال أهل اللغة : سمي المكان المرتفع نجوة ونجاة وزاد بعضهم : منجى - لأن من عليه ينجو من السيل ، وإنما دفعه ودفعهم إلى تفسير الآية بهذا الوجه من اللغة أن إنجاء الإنسان من الغرق إنما يكون بخروجه حيا ببدنه ونفسه ، كما تقدم قريبا في إنجاء نوح ومن معه في الفلك ، وكل استعماله في القرآن بمعنى النجاة من العذاب كإنجاء بني إسرائيل من فرعون وآله ، وقال بعضهم : إن التعبير بالتنجية تهكم به ، وإن الحكمة بذكر البدن أنه يخرج جسده سالما ليعرف ، وقيل : إن المراد بالبدن الدرع فهو من أسمائها في اللغة ، وإنما محل العبرة أن يلفظه البحر ببدنه ليعرف فيعتبر بنو إسرائيل الذين قيل إنهم شكوا في غرقه ، ويعتبر القبط الذين عبدوه ، ولذلك قيل : إن درعه كانت معروفة وإنها من المذهب ، أو كان له فوق درع الزرد درع أخرى من الذهب ، ولكن الدروع تقتضي رسوب الغريق في البحر إلا أن يجرفه الموج . وأما العبرة لمن بعده فهي أعم : هي ما سيقت القصة لأجله من كونها شاهدا كالتي قبلها على صدق وعد الله لرسله ووعيده لأعدائهم ، كطغاة مكة التي أنزلت [ ص: 390 ] هذه الآيات بل هذه السورة كلها لإقامة حجج الله عليهم في هذه المسألة قبل غيرهم ; لأنهم أول من بلغته الدعوة ، وقوله تعالى : ( وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون ) تعريض بهم وأكده هذا التأكيد لما تقتضيه شدة الغفلة من قوة التنبيه ، أي إنهم لشديدو الغفلة عنها على شدة ظهورها فلا يتفكرون في أسبابها ونتائجها وحكم الله فيها ، ولا يعتبرون بها ، وإنما يمرون عليها معرضين كما يمرون على مسارح الأنعام ، وفيه واستبانة سنن الله فيها ، للاعتبار والاتعاظ بها . ومن العجيب أن يكون أهل القرآن منهم ، كلا إنه حجة على الغافلين بريء منهم . ذم للغفلة ، وعدم التفكر في أسباب الحوادث وعواقبها