[ ص: 43 ] أولئك يؤمنون به ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة
هذه الآية في المقابلة والموازنة بين من يهتدي ويهدي بالقرآن على علم وبينة ، ومن يكفر به على جهل وتقليد ، أو عناد وجحود ، فهي صلة بين ما قبلها وما بعدها .
( أفمن كان على بينة من ربه ) أي على الحجة وبصيرة من ربه فيما يؤمن به ويدعو إليه هاديا مهتديا به ، فالبينة ما يتبين به الحق في كل شيء بحسبه ; كالبرهان في العقليات ، والنصوص في النقليات ، والخوارق في الإلهيات ، والتجارب في الحسيات ، والشهادات في القضائيات ، والاستقراء في إثبات الكليات ، وقد نطق القرآن بأن الرسل كلهم قد جاءوا بالبينات ، وأن كل نبي منهم كان يحتج على قومه بأنه على بينة من ربه ، وأنه جاءهم ببينة من ربهم ، كما ترى في قصصهم من سورة الأعراف وهذه السورة . وكانت بيناتهم قسمين : حججا عقلية ، وآيات كونية ، وكان من لم يقتنع ببينة الرسول أو يكابرها يقولون : ( ما جئتنا ببينة ) ( 11 : 53 ) وكان من جحد الآية الكونية بعد التحدي والإنذار بالعذاب يهلكون بعذاب الاستئصال ، وتجد هذا وذاك مفصلا في قصصهم من هذه السورة ، وفرق بين قول الرسول منهم : إني على بينة من ربي 6 : 57 وقوله : ( قد جئتكم ببينة من ربكم ) ( 7 : 105 ) فالأولى ما علم هو به أنه رسول من ربه بوحيه إليه ، وبإظهاره على ما شاء من رؤية ملك الوحي وغيره من عالم الغيب ، والثانية ما آتاه من الحجة العقلية على قومه كقوله : ( وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه ) ( 6 : 83 ) أو ما آتاه من آية كونية تستخذي لها أنفسهم ، وتنقطع بها مكابرتهم .
وكان نبينا - صلى الله عليه وسلم - يطلق البينة تارة على الحجة والبرهان ، وتارة على آيته الكبرى الجامعة للبراهين الكثيرة وهي القرآن ، قال تعالى له : ( قل إني على بينة من ربي وكذبتم به ) ( 6 : 57 ) وأمره أن يقول لهم بعد ذكر موسى والتوراة : ( وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون ) ( 6 : 155 - 157 ) فهذا [ ص: 44 ] السياق يشبه سياق الآية التي نفسرها .
وفي المراد بصاحب البينة فيها وجهان :
الوجه الأول : أنه عام قوبل به ما قبله ، وهو من لا يريدون من حياتهم إلا لذات الدنيا وزينتها ، وأن البينة هي نور البصيرة الفطرية والحجة العقلية التي يميز بها الإنسان بين الحق والباطل ، والهدى والضلال . والمعنى : أفمن كان على بينة وبصيرة في دينه من ربه - فهو كقوله : ( أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه ) ( 39 : 22 ) ( ويتلوه شاهد منه ) أي ويتبع هذا النور الفطري والبرهان العقلي المراد بالبينة ، وأعاد الضمير عليها مذكرا باعتبار معناها ، ويؤيده نور آخر غيبي إلهي منه - تعالى - يشهد بحقيته وصحته ، وهو هذا القرآن ، الذي هو مشرق النور والهدى والبرهان ( ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة ) ويتبعه ويؤيده شاهد آخر جاء من قبله ، وهو الكتاب الذي أنزل على موسى - عليه السلام - حال كونه إماما متبعا في الهدى والتشريع ، ورحمة لمن آمن وعمل به من بني إسرائيل ، وشهادته له من وجهين : شهادة مقال وشهادة حال ; فالأولى تصريحه بالبشارة بنبوة محمد ورسالته وقد بيناها مفصلة في تفسير ( 7 : 157 ) ، والثانية ما بين رسالة موسى ومحمد - عليهما الصلاة والسلام - من التشابه .
وحاصل المعنى : أفمن كان هذا شأنه في كمال الفطرة والعقل ، الذي عرف به حقية الوحي العام الأخير ، وما فيه من كمال الهداية والنور ، وعرف تأييده بالوحي السابق الذي اهتدى به بنو إسرائيل ، فاتسقت له أنوار الحجج الثلاث في هداية دينه ، كمن كان يريد من حياته الحياة الدنيا الناقصة الفانية وزينتها الموقتة ، محروما من الحياة العقلية والروحية العالية ، الموصلة إلى سعادة الآخرة الباقية ؟ ! .
( أولئك يؤمنون به ) أي أولئك الموصوفون بما ذكر من الجمع بين البينة الوهبية ، [ ص: 45 ] وشهادة الوحي لعقائدهم وأعمالهم الكسبية ، ويؤمنون بهذا القرآن إيمان معرفة وإذعان ، على علم بما فيه من الهدى والفرقان ، وأنه ما كان أن يفترى من دون الله ( ومن يكفر به من الأحزاب ) الذين تحزبوا من أهل مكة وزعماء قريش للصد عنه ، وقال مقاتل : هم بنو أمية وبنو المغيرة بن عبد الله المخزومي وآل طلحة بن عبيد الله ، والذين سيتحزبون لمثل ذلك من أهل الكتاب ( فالنار موعده ) أي فإن نار جهنم هي الدار التي ينتهون إليها بمقتضى وعده - تعالى - آنفا ( أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار ) ( 11 : 16 ) وما في معناه في السور الكثيرة ، فالموعد اسم مكان ( فلا تك في مرية منه ) أي فلا تكن أيها المكلف العاقل في شك من هذا الوعد ، أو من أمر هذا القرآن ( إنه الحق من ربك ) إنه هو الحق الكامل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ( من ربك ) وخالقك الذي يربيك مما تكمل به فطرتك ، ويوصلك إلى السعادة في دنياك وآخرتك ( ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ) هذا الإيمان الكامل ، أما المشركون فلاستكبار زعمائهم ورؤسائهم ، وتقليد مرءوسيهم ودهمائهم ، وأما أهل الكتاب فلتحريفهم وابتداعهم في دين أنبيائهم ، قال : المراد بـ - الناس - في مثل هذه الآية ابن عباس أهل مكة ، وقال غيره : جميع الكفار . ولكن أكثر أهل مكة أو كلهم كانوا قد آمنوا في عهد - رضي الله عنه - فإذا صحت الرواية عنه كان مراده بيان حالهم عند نزول السورة ، وأن فعل المضارع لبيان الحال الواقع . ابن عباس
( الوجه الثاني ) في الآية : أن المراد بمن ( ( كان على بينة من ربه ) ) فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويجوز أن تكون البينة على هذا علمه اليقيني الضروري بنبوته كما تقدم ، وسيأتي مثله في هذه السورة حكاية عن نوح في الآية 28 ، وعن صالح في الآية 63 ، وعن شعيب في الآية 88 ، ويكون الشاهد الذي يتلوه منه - تعالى - القرآن ، وهو الأظهر عندي ، وروي عن ابن عباس ومجاهد والنخعي والضحاك وعكرمة وأبي صالح : أن ( ( البينة ) ) القرآن ، و ( ( الشاهد ) ) وسعيد بن جبير جبريل - عليه السلام - . وقوله : ( ويتلوه ) على هذا من التلاوة لا من التلو والتبعية ، فهو الذي كان يقرؤه على النبي - صلى الله عليه وسلم - عند نزوله به ، وكان يعارضه ويدارسه في رمضان من كل سنة جميع ما نزل منه ، حتى إذا كان آخر رمضان من آخر عمره - صلى الله عليه وسلم - عارضه القرآن مرتين . وفي الشاهد روايات أخرى ضعيفة الرواية والدراية ( ( منها ) ) أنه ملك آخر غير جبريل كان يحفظه القرآن أن ينسى منه شيء ( ( ومنها ) ) أنه لسانه - صلى الله عليه وسلم - والذي كان يتلوه به على الناس ( ( ومنها ) ) أنه علي [ ص: 46 ] - رضي الله عنه - يرويه الشيعة ويفسرونه بالإمامة ، وروي أنه - كرم الله وجهه - سئل عنه فأنكره وفسره بأنه لسانه - صلى الله عليه وسلم - وقابلهم خصومهم بمثلها فقالوا : إنه أبو بكر ، وهما من التفسير بالهوى ، وأنت ترى أن بقية الآية لا تظهر على هذا الوجه بالجلاء والضياء الذي يظهر به الوجه الأول ، بل يحتاج الجمع في قوله تعالى : ( أولئك يؤمنون به ) إلى تأويل متكلف .