الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( المسألة الرابعة : التقليد ) :

                          المراد منه اتباع بعض الناس لمن يعظمه أو يثق به أو يحسن به الظن فيما لا يعرف أحق هو أم باطل ، وخير هو أم شر ، ومصلحة أم مفسدة ، وأصل التقليد في اللغة تحلية المرأة بالقلادة ، أو الرجل بالسيف ، أو الهدي بما يعرف به ( وهو بالفتح ما يهديه مريد النسك إلى الحرم من الأنعام ) وتقليده : أن يعلق عليه جلدة أو غيرها ليعرف أنه هدي فلا يتعرض له ، ومنه تقليد الولايات والمناصب ، يقال : قلده السيف أو العمل فتقلده ، وقولهم : قلد فلان الإمام الشافعي مثلا . معناه : جعل رأيه وظنه الاجتهادي في الدين قلادة له ، والأصل أن يقال : تقلد مذهب الشافعي . وعرف الفقهاء التقليد بأنه العمل بقول من لا يعرف دليله ، وقد نهى الأئمة المعروفون الناس عن تقليدهم في دينهم ، وقالوا : لا يجوز لأحد أن يتبع أحدا إلا فيما عرف دليله وظهر له أنه حق ، فالعالم مبين للحكم لا شارع له ، والتقليد بهذا المعنى شأن الطفل مع والديه والتلميذ مع أستاذه ، وهو لا يليق بالراشد المستقل ، ولكن المرءوسين مع الرؤساء ، والعامة مع الزعماء والأمراء ، كالأطفال مع الأمراء المستبدين ، وأما تلقي النصوص القطعية والسنن العملية عن ناقليها فهو ليس بتقليدهم ، وكذا أخذ الفنون والصناعات عن متقنيها . وأما تشبه الشرقيين بالإفرنج فيما لا باعث عليه إلا تعظيمهم لأنهم أقوى منهم ولا سيما أزياء النساء والعادات فكله من التقليد الضار ، الدال على الصغار .

                          ولما كان الإسلام دين الرشد والاستقلال ، أنكر على العقلاء البالغين المكلفين جمود التقليد على ما كان عليه آباؤهم من أمر دينهم ودنياهم ، لا لأجل أن يقلدوا آخرين من أهل [ ص: 183 ] عصرهم ويسنوا لمن بعدهم تقليدهم ، بل ليكونوا مستقلين في طلب الحقائق من أدلتها ، وعلله بقوله - تعالى - : - أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون - 5 : 104 على ما بيناه في مواضع من هذا التفسير متفرقة ، ثم في كتاب ( الوحي المحمدي ) مجتمعة .

                          وفي قصص هذه السورة من حكاية هذا التقليد عن ثمود : - قالوا ياصالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا - 62 وعن مدين : - قالوا ياشعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء - 87 ؟ .

                          ومن عجائب الجهل بالقرآن أن يعود الخلق الكثير من مدعي اتباع القرآن إلى التقليد - لا تقليد أئمة العلم المتقدمين الذين نهوهم عن التقليد اتباعا للقرآن - بل تقليد آبائهم وشيوخهم المتأخرين المقلدين ، حتى فيما ابتدعوا أو قلدوا أهل الملل من عبادة غير الله بدعاء غير الله والنذر لغير الله ، وشرع ما لم يأذن به الله ، ولئن سألتهم ليقولن ليس هذا بعبادة لغير الله ، بل توسل إلى الله وتقرب إليه ؟ ! فإن قلت لهم : إن هذا ما كان يقوله المشركون الذين قاتلهم لأجله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آل أمرهم إلى الاستدلال على الشيء بنفسه وهو تقليدهم لمن يفعل فعلهم أو يقره من مشايخ الأزهر ومشايخ الطرق ، فإن قلت لهم : إن هؤلاء مخالفون لنصوص الكتاب والسنة وللأئمة الذين يدعون اتباعهم ؟ قالوا : إنهم أعلم منا بما كان عليه الأئمة المختصون بفهم الكتاب والسنة . فما أضيع البرهان عند المقلد . ولو كان التقليد حجة مقبولة عند الله لقبلها من مقلدي جميع الأمم والملل فإنه هو الحكم العدل ، لا يظلم ولا يحابي بعض عباده على بعض .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية