[ ص: 257 ] ( يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضي الأمر الذي فيه تستفتيان وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين
( ) : تأويله لمنامي صاحبي السجن ووصيته للناجي منهما
( ياصاحبي السجن أما أحدكما ) وهو الذي رأى أنه يعصر خمرا ( فيسقي ربه خمرا ) يعني بربه : مالك رقبته وهو الملك ، لا ربوبية العبودية ، فملك مصر في عهد يوسف لم يدع الربوبية والألوهية كفرعون موسى وغيره ، بل كان من ملوك العرب الرعاة الذين ملكوا البلاد عدة قرون ( وأما الآخر ) وهو الذي رأى أنه يحمل خبزا تأكل الطير منه ( فيصلب فتأكل الطير من رأسه ) أي الطير التي تأكل اللحوم كالحدأة . وهذا التأويل قريب من أصل رؤيا كل منهما ، وقد يكون من خواطرهما النومية ، وتأويلهما على كل حال من مكاشفات يوسف ويؤكدها قوله : ( قضي الأمر الذي فيه تستفتيان ) فهذا نبأ زائد على تعبير رؤياهما ، ورد مورد الجواب عن سؤال كان يخطر ببالهما ، أو أسئلة في صفة ذلك التعبير وهل هو قطعي أم ظني يجوز غيره ومتى يكون ؟ فهو يقول لهما : إن الأمر الذي يهمكما أو يشكل عليكما وتستفتياني فيه قد قضي وبت فيه وانتهى حكمه . والاستفتاء في اللغة السؤال عن المشكل المجهول ، والفتوى جوابه سواء أكان نبأ أم حكما ، وقد غلب في الاستعمال الشرعي في السؤال عن الأحكام الشرعية ، ومن الشواهد على عمومه : أفتوني في رؤياي 43 وهي مشتقة من الفتوة الدالة على معنى القوة والمضاء والثقة .
قلت : إن هذه الفتوى من يوسف - عليه السلام - زائدة على ما عبر به رؤياهما ، داخلة في قسم المكاشفة ونبأ الغيب مما علمه الله - تعالى - وجعله آية له ليثقوا بقوله وهم أولو علم وفن وسحر ، ومعناها أنه علم بوحي ربه أن الملك قد حكم في أمرهما بما قاله ، لا من باب تأويل الرؤيا على تقدير كون ما رأيا من النوع الصادق منها لا من أضغاث الأحلام ( وسنبين الفرق بينهما في التفسير الإجمالي لكليات السورة إن شاء الله تعالى ) .
[ ص: 258 ] ( وقال للذي ظن أنه ناج منهما ) وهو الذي أول له رؤياه بأنه يسقي ربه خمرا ، وتأويلها يدل على نجاته دلالة ظنية لا قطعية ، فإن كانت فتواه بعده عن وحي نبوي كما رجحنا لا تتمة لتأويلها ، فيجوز أن يكون التعبير عن نجاته بالظن ، لأن ما علم من قضاء الملك بذلك يحتمل أن يعرض ما يحول دون تنفيذ .
وقد بينا في الكلام على رؤيا يوسف وما فهمه أبوه منها من أمر مستقبله ، أن علم الأنبياء ببعض الأمور المستقبلة إجمالي إلخ ، وقال جمهور المفسرين : إن الظن هنا بمعنى العلم وفي هذه الدعوى نظر ، وقد بينا تحقيق الحق في الفرق بين الظن والعلم لغة واصطلاحا في موضع آخر فلا محل لإعادته هنا : ( اذكرني عند ربك ) أي عند سيدك الملك ، بما رأيت وسمعت وعلمت من أمري عسى أن ينصفني ممن ظلموني ويخرجني من السجن ، وهذا الذكر يشمل دعوته إياهم إلى التوحيد ، وتأويله للرؤيا ، وإنباءهم بكل ما يأتيهم من طعام وغيره قبل إتيانه ، وآخره فتواه الصريحة فهي جديرة بأن تذكره به كلما قدم للملك شرابه ( فأنساه الشيطان ذكر ربه ) أي أنسى الساقي تذكر ربه ، وهو أن يذكر يوسف عنده على حد : ( وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره ) 18 : 63 ( فلبث في السجن بضع سنين ) منسيا مظلوما ، والفاء على هذا للسببية وهو المتبادر من السياق ، والجاري على نظام الأسباب ، ويؤيده قوله - تعالى - الآتي قريبا : ( وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة ) 45 أي تذكر ، إلا أن هذا الاستعمال يحتاج إلى حذف وتقدير ، ووجهوه بأنه أضاف المصدر إليه لملابسته له ، أو أنه على تقدير : ذكر إخبار ربه ، فحذف المضاف ، وهو كثير كما أن الإضافة لأدنى ملابسة كثير في كلامهم .
يوسف ذكر ربه وهو الله - عز وجل - فعاقبه الله - تعالى - بإبقائه في السجن بضع سنين . وقيل : إن المعنى أن الشيطان أنسى
وقالوا : إن ذنبه الذي استحق عليه هذا العقاب أنه توسل إلى الملك لإخراجه ولم يتوكل على الله - عز وجل - وجاءوا عليه بروايات لا يقبل في مثلها إلا الصحيح المرفوع أو المتواتر منه ، لأنها تتضمن الطعن في نبي مرسل ، ولكن قبلها على علاتها الجمهور كعادتهم وهو خلاف الظاهر من وجوه :
( الأول ) عطف الإنساء على ما قاله للساقي بالفاء يدل على وقوعه عقبه ، ومفهومه أنه كان ذاكرا لله - تعالى - قبله إلى أن قاله ، فلو كان قوله ذنبا عوقب عليه لوجب أن يعطف عليه [ ص: 259 ] بجملة حالية بأن يقال : وقد أنساه الشيطان ذكر ربه - أي في تلك الحال - فلم يذكره بقلبه ولا بلسانه ، فاستحق عقابه - تعالى - بإطالة مكثه على خلاف ما أراده من ملك مصر وحده .
( الثاني ) أن اللائق بمقامه ألا يقول ذلك القول إلا من باب مراعاة سنة الله - تعالى - في الأسباب والمسببات كما وقع بالفعل ، فإنه ما خرج من السجن إلا بأمر الملك ، وما أمر الملك بإخراجه إلا بعد أن أخبره الساقي خبره ، وما آتاه ربه من العلم بتأويل الرؤى وبغير ذلك مما وصاه به يوسف ، فإذا كان قد وصاه بذلك ملاحظا أنه من سنن الله في عباده متذكرا ذلك - وهو اللائق به - فلا يعقل أن يعاقبه ربه - تعالى - عليه ، وعطف الإنساء بالفاء يدل على وقوعه بعد تلك الوصية ، فلا تكون هي ذنبا ولا مقترنة بذنب فيستحق عليها العقاب .
( الثالث ) إذا قيل : سلمنا أنه كان ذاكرا لربه عندما أوصى الساقي ما أوصاه به ، ولكنه نسيه عقب الوصية واتكل عليها وحدها . ( قلنا ) : إن زعمتم أنه نسي ذلك في الحال واستمر ذلك النسيان مدة ذلك العقاب وهو بضع سنين أو تتمتها ، كنتم قد اتهمتم هذا النبي الكريم تهمة فظيعة لا تليق بأضعف المؤمنين إيمانا ، ولا يدل عليها دليل ، بل يبطلها وصف الله له بأنه من المحسنين ومن عباده المخلصين المصطفين ، وبأنه غالب على أمره ، وأنه صرف عنه السوء والفحشاء ، وكيد النساء .
وإن زعمتم أن الشيطان أنساه ذكر ربه برهة قليلة عقب تلك الوصية ، ثم عاد إلى ما كان عليه من مراقبته له - عز وجل - وذكره فهذا النسيان القليل ، لا يستحق هذا العقاب الطويل ، ولم يعصم من مثله نبي من الأنبياء كما يعلم من الوجهين : الرابع ، والخامس .
( الرابع ) جاء في نصوص التنزيل في خطاب الشيطان : ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين ) 15 : 42 وقال - تعالى - : ( إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ) 7 : 201 فالتذكر بعد النسيان القليل من شأن أهل التقوى .
( الخامس ) أن النسيان ليس ذنبا يعاقب الله تعالى عليه ، وقد قال - تعالى - لخاتم النبيين : ( وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ) 6 : 68 يعني الذين أمره بالإعراض عنهم إذا رآهم يخوضون في آيات الله .
( السادس ) أنهم ما قالوا هذا إلا لأنهم رووا فيها حديثا مرفوعا على قلة جرأة الرواة [ ص: 260 ] على الأحاديث المرفوعة المسندة في التفسير ، وهو ما أخرجه في تفسير الآية عن ابن جرير الطبري عن سفيان بن وكيع عمرو بن محمد عن عن إبراهيم بن يزيد عن عمرو بن دينار عكرمة عن مرفوعا قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( ( ابن عباس يوسف الكلمة التي قال ما لبث في السجن طول ما لبث حيث يبتغي الفرج من عند غير الله ) ) ونقول : إن هذا الحديث باطل ، قال لو لم يقل الحافظ ابن كثير : وهذا الحديث ضعيف جدا . ضعيف سفيان بن وكيع وإبراهيم بن يزيد هو الجوزي أضعف منه أيضا . وقد روي من الحسن وقتادة مرسلا عن كل منهما . وهذه المرسلات ههنا لا تقبل لو قبل المرسل من حيث هو في غير هذا الموطن والله أعلم ا هـ .
وأقول : أولا : إن ما قاله في هذين الراويين للحديث هو أهون ما قيل فيهما ، ومنه أنهما كانا يكذبان . وثانيا : إنه يعني بقوله ( ههنا ) الطعن في نبي مرسل بأنه كان يبتغي الفرج من عند غير الله ، وهو الجدير بألا تحجبه الأسباب الظاهرة عن واضعها ومسخرها وخالقها - عز وجل - . ويعني بقوله : لو قبل المرسل من حيث هو ) ما هو الصحيح عند علماء الأصول وهو عدم الاحتجاج بالمراسيل ، وسنتكلم على المراسيل في التفسير في الكلام الإجمالي عن روايات هذه السورة وأمثالها في الخلاصة الإجمالية لتفسيرها إن شاء الله - تعالى - وما رواه الكلبي وغيره عن وهب بن منبه من خطاب الله - تعالى - وخطاب وكعب الأحبار جبريل ليوسف وتوبيخه على الاستشفاع بآدمي مثله ، فهي من موضوعات الراوي والمروي عنهما جزاهم الله ما يستحقون ، فتبين بهذا أن التفسير المأثور في الآية باطل رواية ودراية وعقيدة ولغة وأدبا .
وقد اختلف المفسرون في يوسف في السجن بناء على الاختلاف في تفسير ( ( البضع ) ) واختلاف الرواة . فالتحقيق أن البضع من ثلاث إلى تسع ، وأكثر ما يطلق على السبع ، وعليه الأكثرون في مدة سجن مدة لبث يوسف من أولها إلى آخرها . وما قالوه من أن السبع كانت بعد وصيته للساقي وأنه لبث قبلها خمس سنين فلا دليل عليه .