الباب الثاني في الصيال
هو متضمن لمعرفة الصائل وهو المدفوع ، والمصول عليه وهو المدفوع عنه ، وكيفية الدفع وحكمه . أما الصائل ، فكل قاصد من مسلم وذمي وعبد وحر وصبي ومجنون وبهيمة ، يجوز دفعه فإن أبى الدفع على نفسه ، فلا ضمان بقصاص ولا دية ولا كفارة ولا قيمة ، ولو ففي الضمان وجهان ، أصحهما : يجب ؛ لأنه قصد لها بخلاف الآدمي والبهيمة ، ولو سقطت جرة من علو ، واستوت على رأس إنسان وخاف منها ولم يمكنه دفعها إلا بإتلافها ، ففي الضمان وجهان ، ويمكن أن يجعل الأصح هنا نفي الضمان كما ذكرنا فيما لو عم الجراد المسالك فوطئه المحرم . حالت بهيمة بين جائع وطعامه في بيت ، ولم يصله إلا بقتلها
أما المصول عليه ، فيجوز ، وعن المال وإن قل إذا كانت المذكورات معصومة ، ويجوز لغير المصول عليه الدفع ، وله دفع مسلم صال على ذمي ، وأب صال على ابنه ، وسيد صال على عبده ؛ لأنهم معصومون مظلومون ، وحكى الإمام قولا قديما أنه لا يجوز الدفع عن المال إذا لم يحصل الدفع إلا بقتل ، أو قطع طرف ، والمشهور الأول ، وبه قطع الجماهير ، وفي الحديث الصحيح : " الدفع عن النفس والطرف ومنفعته ، والبضع ومقدماته " فله الدفع في كل هذه الصور ، وإن من قتل دون ماله فهو شهيد ، فلا ضمان فيه ، ولو أتى الدفع على الصائل وللأجنبي دفعه كذلك حسبة ، ويجوز أن يكون المدفوع عنه ملك [ ص: 187 ] القاصد ، فمن رأى إنسانا يتلف مال نفسه ، بأن يحرق كدسه ويغرق متاعه ، جاز له دفعه ، وإن كان حيوانا بأن رآه يشدخ رأس حماره ، وجب على الأجنبي دفعه على الأصح وبه قطع وجده ينال من جاريته ما دون الفرج ، فله دفعه ، وإن أتى على نفسه البغوي ، لحرمة الحيوان ، أما ، فيجب على المصول عليه رعاية التدريج والدفع بالأهون فالأهون ، فإن أمكنه الدفع بالكلام أو الصياح ، أو الاستغاثة بالناس ، لم يكن له الضرب ، وكذا لو اندفع شره ، بأن وقع في ماء أو نار ، أو انكسرت رجله ، لم يضربه ، وكذا لو حال بينهما جدار أو خندق أو نهر عظيم ، فإن حال نهر صغير وغلب على ظنه أنه إن عبر النهر عليه ، قال كيفية الدفع ابن الصباغ : فله رميه ومنعه العبور ، أما ، ويراعى فيه الترتيب ، فإن أمكن باليد ، لم يضربه بسوط ، وإن أمكن بسوط ، لم يجز بالعصا ، ولو أمكن بقطع عضو ، لم يجز إهلاكه ، وإذا أمكن بدرجة ، فدفعه بما فوقها ، ضمن ، وكذا لو هرب فتبعه وضربه ، ضمن ، إذا لم يندفع الصائل إلا بالضرب ، فله الضرب ، فالثانية مضمونة بالقصاص وغيره ، فإن مات منهما ، لم يجب قصاص النفس ، ويجب نصف الدية ؛ لأنه هلك من مضمون وغيره ، ولو عاد بعد الجرحين فصال ، فضربه ثالثة فمات منها ، لزمه ثلث الدية ، ومتى غلب على ظنه أن الذي أقبل عليه بالسيف يقصده ، فله دفعه بما يمكنه ، وإن لم يضربه المقبل ، ولو كان ولو ضربه ضربة ، فولى هاربا أو سقط ، وبطل صياله فضربه أخرى ، فالصحيح أن له الضرب به ؛ لأنه لا يمكنه الدفع إلا به ولا يمكن نسبته إلى التقصير بترك استصحاب سوط ، والمعتبر في حق كل شخص حاجته ، ولذلك نقول : الحاذق الذي يحسن الدفع بأطراف السيف من غير جرح يضمن إن جرح ، ومن لا يحسن ، لا يضمن بالجرح ، ولو الصائل يندفع بالسوط والعصا ، ولم يجد المصول عليه إلا سيفا أو سكينا ؟ فيه اختلاف نص ، وللأصحاب طريقان ، أصحهما : على قولين ، أظهرهما : يجب الهرب ؛ لأنه مأمور بتخليص نفسه بالأهون ، والطريق الثاني : حمل نص الهرب على من تيقن النجاة بالهرب ، والآخر على من لم يتيقن . قدر المصول عليه على الهرب ، أو التحصن بموضع حصين ، أو على [ ص: 188 ] الالتجاء إلى فئة هل يلزمه ذلك ، أم له أن يثبت ويقاتل
فرع
، فإن أمكن رفع لحييه وتخليص ما عضه فعل ، وإلا ضرب شدقه ليدعه ، فإن لم يمكنه وسل يده ، فسقطت أسنانه ، فلا ضمان ، وسواء كان العاض ظالما أو مظلوما ؛ لأن العض لا يجوز بحال ، ومتى أمكنه التخلص بضرب فمه ، لا يجوز العدول إلى غيره ، فإن لم يمكنه إلا بعضو آخر ، بأن يبعج بطنه ، أو يفقأ عينه ، أو يعصر خصييه ، فله ذلك على الصحيح ، وقيل : ليس له قصد عضو آخر . عض شخص يده ، أو عضوا آخر ، فليخلصه بأيسر الممكن
فصل
أما ، فقد ذكرنا أنه جائز ، وهل يجب أم يجوز الاستسلام وترك الدفع ؟ ينظر إن قصد أخذ المال ، أو إتلافه ولم يكن ذا روح ، لم يجب الدفع ؛ لأن إباحة المال جائزة ، وإن قصد أهله ، وجب عليه الدفع بما أمكنه ؛ لأنه لا مجال فيه ، وشرط حكم الدفع البغوي للوجوب أن لا يخاف على نفسه . وإن قصد نفسه ، نظر إن كان كافرا ، وجب الدفع ، وأشار الروياني إلى أنه لا يجب ، بل يستحب وهو غلط ، والصواب الأول ، وبه قطع الأصحاب ، وإن كان بهيمة ، وجب ، وإن كان مسلما فقولان ، وقيل : وجهان ، أظهرهما : لا يجب الدفع ، بل له الاستسلام ، والثاني : يجب ، وعن القاضي حسين أنه إن أمكنه دفعه بغير قتله ، [ ص: 189 ] وجب ، وإلا فلا ، والقائلون بجواز الاستسلام ، منهم من يزيد ويصفه بالاستحباب ، وهو ظاهر الأحاديث ، وإن كان الصائل مجنونا ، أو مراهقا ، فقيل : لا يجوز الاستسلام قطعا ؛ لأنهما لا إثم عليهما ، كالبهيمة ، والمذهب طرد القولين لحرمة الآدمي ، ورضي بالشهادة . وهل يجب ؟ فيه ثلاث طرق ، أصحها : أنه كالدفع عن نفسه ، فيجب حيث يجب ، ولا يجب حيث لا يجب ، والثاني : القطع بالوجوب ؛ لأن له الإيثار بحق نفسه دون غيره ، والثالث ونسبه الإمام إلى معظم الأصوليين : القطع بالمنع ؛ لأن شهر السلاح يحرك الفتن ، وليس ذلك من شأن آحاد الناس ، وإنما هو وظيفة الإمام ، وعلى هذا هل يحرم أم يجوز ؟ فيه خلاف عنهم ، فإن أوجبنا ، فذلك إذا لم يخف على نفسه ، ثم قال الإمام : الخلاف في أن آحاد الناس هل لهم شهر السلاح حسبة لا يختص بالصيال ، بل من أقدم على محرم ، من شرب خمر أو غيره ، هل لآحاد الناس منعه بما يجرح ويأتي على النفس ؟ فيه وجهان ، أحدهما : نعم نهيا عن المنكر ، ومنعا من المعصية . والثاني : لا ؛ خوفا من الفتن ، ونسب الثاني إلى الأصوليين ، والأول إلى الفقهاء ، وهو الموجود للأصحاب في كتب المذهب ، حتى قال الدفع عن الغير الفوراني والبغوي وغيرهم : من علم خمرا في بيت رجل ، أو طنبورا ، وعلم شربه أو ضربه ، فله أن يهجم على صاحب البيت ، ويريق الخمر ، ويفصل الطنبور ، ويمنع أهل الدار الشرب والضرب ، فإن لم ينتهوا ، فله قتالهم وإن أتى القتال عليهم ، وهو مثاب على ذلك ، وفي تعليق الشيخ والروياني إبراهيم المروذي أن من رآه مكبا على معصية من زنى أو شرب خمر ، أو رآه يشدخ شاة أو عبدا ، فله دفعه ، وإن أتى الدفع عليه ، فلا ضمان .