الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        قد يعارض القرينة ما يمنع كونها لوثا ، ويعارض اللوث ما يسقط أثره ويبطل الظن الحاصل به ، وذلك خمسة أنواع :

                                                                                                                                                                        أحدها : أن يتعذر إثباته ، وإذا ظهر لوث في حق جماعة ، فللولي أن يعين واحدا أو أكثر ويدعي عليه ويقسم ، فلو قال : القاتل أحدهم ولا أعرفه ، فلا قسامة ، وله تحليفهم ، فإن حلفوا إلا واحدا ، فنكوله يشعر بأنه القاتل ، ويكون لوثا في حقه ، فإذا طلب المدعي أن يقسم عليه ، مكن منه ، ولو نكل الجميع ، ثم عين الولي أحدهم وقال : قد بان لي أنه القاتل ، وأراد أن يقسم عليه ، مكن منه على الأصح .

                                                                                                                                                                        [ ص: 13 ] الثاني : إذا ظهر لوث في أصل القتل دون كونه خطأ أو عمدا ، فهل يتمكن الولي من القسامة على أصل القتل ؟ وجهان ، أصحهما : لا ، قال البغوي : لو ادعى على رجل أنه قتل أباه ، ولم يقل عمدا ولا خطأ ، وشهد له شاهد ، لم يكن ذلك لوثا ; لأنه لا يمكنه أن يحلف مع شاهده ، ولو حلف ، لا يمكن الحكم به ; لأنه لا يعلم صفة القتل حتى يستوفي موجبه .

                                                                                                                                                                        واعلم أن هذا المذكور يدل على أن القسامة على قتل موصوف يستدعي ظهور اللوث في قتل موصوف ، وقد يفهم من إطلاق الأصحاب أنه إذا ظهر اللوث في أصل القتل ، كفى ذلك في تمكن الولي من القسامة على القتل الموصوف ، وليس هذا ببعيد ، ألا ترى أنه لو ثبت اللوث في حق جماعة وادعى الولي على بعضهم ، جاز ، ويمكن من القسامة ، فكما لا يعتبر ظهور اللوث فيما يرجع إلى الانفراد والاشتراك لا يعتبر في صفة العمد والخطأ .

                                                                                                                                                                        الثالث : أن ينكر المدعى عليه اللوث في حقه ، بأن قال : لم أكن مع القوم المتفرقين عن القتيل ، أو قال : لست أنا الذي رئي معه السكين المتلطخ على رأسه ، أو لست أنا المرئي من بعيد ، فعلى المدعي البينة على الأمارة التي ادعاها ، فإن لم يكن بينة ، حلف المدعى عليه على نفيها ، وسقط اللوث ، وبقي مجرد الدعوى ، ولو قال : كنت غائبا يوم القتل ، أو ادعى على جمع ، فقال أحدهم : كنت غائبا ، صدق بيمينه ; لأن الأصل براءته ، وعلى المدعي البينة على حضوره يومئذ ، أو إقراره بالحضور ، فإن أقام بينة بحضوره ، وأقام المدعى عليه بينة بغيبته ، ففي " الوسيط " : أنهما تتساقطان ، وفي " التهذيب " : تقدم بينة الغيبة ; لأن معها زيادة علم ، هذا إذا اتفقا أنه كان حاضرا من قبل ، [ ص: 14 ] ويعتبر في بينة الغيبة أن يقولوا : كان غائبا في موضع كذا ، فلو اقتصروا على أنه لم يكن هنا ، فهذا نفي محض لا تسمع الشهادة عليه ، ولو أقسم المدعي ، وحكم القاضي بموجب القسامة ، ثم أقام المدعى عليه بينة على غيبته يوم القتل ، أو أقر بها المدعي ، نقض الحكم واسترد المال ، وكذا لو قامت بينة على أن القاتل غيره ، ولو قال الشهود : لم يقتله هذا ، واقتصروا عليه ، لم تقبل شهادتهم ، ولو كان محبوسا أو مريضا يوم القتل ، فهل هما كالغيبة حتى يسقط اللوث إذا ثبت الحال بإقرار المدعي أو بينة ؟ وجهان ، وموضعها إذا أمكن كونه قاتلا بحيلة ولو في صورة بعيدة أصحهما : هما كالغيبة .

                                                                                                                                                                        الرابع : شهد عدل أو عدلان أن زيدا قتل أحد هذين القبيلين ، فليس بلوث ، ولو شهد أو شهدا أن زيدا قتله أحد هذين ، ثبت اللوث في حقهما على الصحيح ، فإذا عين الولي أحدهما وادعى عليه ، فله أن يقسم ، كما لو تفرق جماعة عن قتيل ، وقيل : لا لوث ، كالصورة الأولى .

                                                                                                                                                                        الخامس : تكذيب بعض الورثة ، فإذا كان للميت ابنان ، فقال أحدهما : قتل زيد أبانا ، وقد ظهر عليه اللوث ، وقال الآخر : لم يقتله ، بل كان غائبا يوم القتل ، وإنما قتله فلان ، أو اقتصر على نفي القتل عنه ، أو قال : برأ من الجراحة ، أو مات حتف أنفه ، فهل يبطل تكذيبه اللوث ، ويمنع الأول القسامة ؟ فيه قولان ، أظهرهما : نعم ، وسواء كان المكذب عدلا أو فاسقا ، وقيل : لا تبطل بالفاسق قطعا ، والمنصوص الأصح : أنه لا فرق ، فإن قلنا : لا تبطل ، حلف المدعي خمسين يمينا ، وأخذ حقه من الدية ، ولو قال أحدهما : قتل أبانا زيد ، وقال الآخر : بل قتله عمرو ، وقلنا : لا يبطل اللوث بالتكاذب ، أقسم كل واحد على من [ ص: 15 ] عينه ، وأخذ نصف الدية ، وإن قلنا : يبطل ، فلا قسامة ، ويحلف كل واحد من عينه ، ولو قال أحدهما : قتل أبانا زيد ورجل لا أعرفه ، وقال الآخر : قتله عمرو ، ورجل لا أعرفه ، فلا تكاذب ، فيقسم كل واحد على من عينه ، ويأخذ منه ربع الدية ، فإن عادا ، وقال كل واحد منهما : قد بان لي أن المبهم هو الذي عينه أخي ، فلكل واحد أن يقسم على الآخر ، ويأخذ منه ربع الدية ، وهل يحلف كل واحد خمسين يمينا ، أم خمسا وعشرين ؟ فيه خلاف يأتي في نظائره إن شاء الله تعالى ، وإن قال كل واحد : المبهم غير الذي عينه أخي ، حصل التكاذب ، فإن قلنا : تبطل القسامة ، رد كل واحد ما أخذ بها ، وإلا فيقسم كل واحد على من عينه ثانيا ، ويأخذ منه ربع الدية ، ولو قال الذي عين زيدا : تبينت أن الذي أبهمت ذكره عمرو الذي عينه أخي ، وقال الذي عين عمرا : تبينت أن الذي أبهمت ذكره غير زيد ، فالذي عين عمرا لا يكذبه أخوه ، فله أن يقسم على عمرو ، ويأخذ منه ربع الدية ، والذي عين زيدا ، كذبه أخوه ، فإن قلنا : تبطل القسامة ، رد ما أخذ ، وحلف المدعى عليه ، وإلا أقسم على من عينه ، وأخذ منه ربع الدية ، ولو قال أحدهما : قتل أبانا زيد وحده ، وقال الآخر : قتله زيد وعمرو ، فإن قلنا : التكاذب لا يبطل القسامة ، أقسم الأول على زيد ، وأخذ منه نصف الدية ، ويقسم الثاني عليهما ، ويأخذ من كل واحد ربع الدية ، وإن قلنا : يبطل ، فالتكاذب هنا في النصف ، وفي بطلان القسامة في كل وجهان ، أصحهما : لا تبطل ، فيقسم الأول على زيد ، ويأخذ منه ربع الدية ، وكذا يقسم الثاني عليه ويأخذ ربعها ، ولا يقسم الثاني على عمرو ; لأن أخاه كذبه في الشركة ، وللأول تحليف زيد ، لما بطلت فيه القسامة ، وللثاني تحليف عمرو .

                                                                                                                                                                        ولو قال أحدهما : قتل أبانا زيد وعمرو ، وقال الآخر : قتله بكر وخالد ، فإن أبطلنا القسامة بالتكذيب ، لم يقسم واحد منهما ، ولكل واحد [ ص: 16 ] تحليف اللذين عينهما ، وإن لم يبطلها أقسم كل واحد على اللذين عينهما ، وأخذا من كل منهما ربع الدية .



                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        لا يشترط في اللوث والقسامة ظهور دم ولا جرح ; لأن القتل يحصل بالخنق وعصر الخصية وغيرهما ، فإذا ظهر أثره ، قام مقام الدم ، فلو لم يوجد أثر أصلا ، فلا قسامة على الصحيح ، وبه قطع الصيدلاني والمتولي ، فلا بد أن يعلم أنه قتيل ، ليبحث عن القاتل ، ولو وجد بعضه في محلة وتحقق موته ، ثبتت القسامة ، سواء وجد رأسه أو بدنه ، أقله أو أكثره ، وإذا وجد بعضه في محلة وبعضه في أخرى ، فللولي أن يعين ويقسم .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية