الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الحرمان والتخلف في ديار المسلمين

الدكتور / نبيل صبحي الطويل

الدول النامية، أم الدول الفقيرة؟ تشكل ديار المسلمين الجزء الأكبر من العالم الثالث في أفريقيا وآسيا، هـذا العالم الذي يسميه الغرب نفاقا وخداعا: (الدول النامية) ، والعالم كله -كما هـو معروف- مقسوم الآن إلى (عالم الشمال) الغني المتقدم تكنولوجيا، والمستغل -بكسر الغين- و (عالم الجنوب) الفقير المتخلف المستغل -بفتح الغين- ولكن الغرب -الرأسمالي والماركسي على السواء- يتحاشى ظاهرا استعمال كلمة التخلف والفقر، ويطلق على العالم الفقير المعدم تعبير: (الدول [ ص: 44 ] النامية) ، والخبث في هـذا التعبير يظهر من معنى الكلمة بالإنجليزية: [Developping]، أو بالفرنسية: [En Voie de development]، فهي توحي بالحركة القائمة مع أن واقع هـذه الدول هـو العكس تماما، ففي عالم الجنوب (استنقاع) اقتصادي، إن لم نقل تراجعا وتأخرا. يقول الاقتصادي البريطاني (بريان آيل سميث) : (هناك دلائل كثيرة على أن الأوضاع المادية لمجموعات كبيرة من الناس في العالم الثالث هـي أسوأ مما كانت عليه منذ عقدين من الزمان) [1] .

ورغم ما يشاع ويذاع ويملأ الأسماع عن المعونات الخارجية للدول (النامية) فإنها لا تنمو، بل تزداد فقرا على فقر؛ يقول (جورج وودز) المدير السابق للبنك الدولي في المعونات الاقتصادية: (إذا استمر الحال على هـذا المنوال تكون كمية رءوس الأموال الخارجة من الدول النامية أكثر من البالغ التي دخلتها في فترة خمسة عشر عاما؛ وذلك بسبب الفوائد المرتفعة) [2] .

وتؤكد مصادر أخرى هـذا الرأي فتقول:

(هناك درجة من المصداقية في القول بأن مساعدات التنمية زادت (الطين بلة) وجعلت الدول النامية المستلمة للمساعدات أسوأ [ ص: 45 ] مما كانت عليه قبل أن تساعد) [3] .

ولعل أطرف الأمثلة وأحدثها عما تفعله (المعونات الخارجية) هـو قصة صندوق النقد الدولي مع مصر في اتفاق برنامج التثبيت الاقتصادي، والذي عقده البنك مع جمهورية مصر العربية للفترة ما بين 1978م - 1981م، وكان الهدف المعلن لهذا البرنامج هـو إخراج مصر من أزمتها الاقتصادية، وتقليل نسبة عجز ميزانها التجاري، وفي الدراسة التي أجراها الدكتور رمزي زكي الخبير الأول في معهد التخطيط القومي المصري ظهر أن (الصندوق) دخل مصر عام 1978م وهي مدينة بـ: (8000) مليون دولار، وخرج (الصندوق) إياه منها عام 1981م وهي مدينة بأكثر من (18000) مليون دولار؛ أي أن كل مواطن مصري كان مديونا بـ (422) دولار للعالم [4] .

وتفصيلا للديون المصرية كتبت ( ناهد فريد ) في مجلة صباح الخير ما يلي: (إن إجمالي الديون المصرية حسب دراسة البنك الدولي للإنشاء والتعمير بلغ في منتصف عام 1982م (19.2) مليار دولار، وهكذا أصبح ترتيبنا التاسع بين أكبر الدول المدينة في العالم.

كان إجمالي ديون مصر:

في بداية عام 1970م: 1.6 مليار دولار.

وفي نهاية عام 1973م: 2.1 مليار دولار

وفي نهاية عام 1976م: 10 مليار دولار [ ص: 46 ] وفي عام 1980م: 13.054 مليار دولار.

وأصبح في منتصف عام 1982م: 19.2 مليار دولار.

ولو قسمت الديون هـذه الديون المتراكمة على عدد السكان لوجدنا أن الفرد الواحد مديون عالميا بحوالي (420) دولارا في السنة، والغريب أن دخل الفرد الواحد أيضا لا يتعدى (460) دولارا في السنة) [5] .

وتذكر دراسة أخرى ملخصا لواقع الحياة الاقتصادية في مصر تحت العنوان التالي: (تضاعف أعباء الديون 7 مرات في أقل من 6 سنوات، وزيادة العجز التجاري 40 مرة) [6] .

وبمناسبة الحديث عن الديون الخارجية وتراكمها في كثير من الدول المسلمة أعرض الجدول التالي وفيه بعض الأرقام المذهلة التي تزايدت بصورة هـائلة في العقد الماضي (ما بين 1970 - 1980م) ، بحيث شكلت في عام 1980م أكثر من خمسين بالمائة من إجمالي الناتج القومي.

وكما أن الدين بالنسبة للفرد هـو هـم بالليل وذل بالنهار، كذلك ديون الدولة المستدينة التي تصبح عالة على دائنيها معتمدة عليهم اعتمادا كليا في حياتها وحياة شعوبها. وإذا تذكرنا أن الدول الكبيرة هـي الدائنة في الغالب، أو المؤسسات الدولية الخاضعة لها نجد كيف تؤثر هـذه الدول الكبيرة في سياسات الدول الفقيرة المدينة (في سياساتها الداخلية [ ص: 47 ] والخارجية) ، ومن أراد الاستزادة في موضوع المعونات يمكنه الرجوع إلى الكتاب الذي أشرت إليه قبل. تراكم الديون الخارجية العامة لبعض دول العالم المسلم [7] :

الدولة عام 1970م عام 1980م المبلغ بالملايين بالدولار الأمريكي النسبة المئوية من إجمالي الناتج القومي المبلغ بالملايين بالدولار الأمريكي المبلغ بالملايين بالدولار الأمريكي أفغانستان 454 - 1094 - باكستان 3059 30.5 % 8875 34.7% السودان 308 15.3% 3097 [8] 37.2% اليمن الجنوبي 1 - 499 - أندونيسيا 2443 27.1% 14940 [9] 22.5% موريتانيا 27 16.8% 714 139.7% مصر 1644 23.8% 13054 51.7% المغرب 711 18% 7098 38.6% نيجيريا 478 6.4% 4997 5.5% تونس 541 38.2% 2955 33.9% سورية 232 12.8% 2493 20.1% تركيا 1854 14.4% 13216 22.4% الجزائر 937 19.3% 15073 38.7% السنغال 98 11.6% 906 34.9% [ ص: 48 ]

ولا يقتصر عدم التوازن في المداخيل عالميا على وجود دول غنية ودول فقيرة، بل هـناك في الدول الفقيرة خلل كبير في التوازن الاقتصادي والاجتماعي؛ وإليكم هـذا المثل الآخر عن الظلم الاجتماعي في ديار المسلمين، من بلد صغير هـو لبنان: يقول الكاتب الاقتصادي السيد عدنان كريمة في دراسة طريفة عن (أصحاب الملايين) في لبنان ما يلي:

(كلمة [مليونير] -أي: رجل يملك مليونا من الليرات اللبنانية كحد أدنى- لم تعد مستهجنة في الثمانينيات كما كانت في الستينيات، وبعض الشيء في السبعينيات، ففي الستينيات كان في لبنان حوالي (500) مليونير، (وسكان لبنان هـم أقل من ثلاثة ملايين نسمة) ؛ وقد ارتفع الرقم في نهاية العام 1972م إلى حوالي (900) مليونير، ثم ازداد عدد (المليونيريين) خلال السبعينات فوصل في نهاية عام 1979م إلى حوالي (12000) مليونير، وقفز في العام الماضي -أي: 1982م- إلى أكثر من عشرين ألفا) [10] .

ومن المعروف أن الحرب الأهلية المستعرة وغزو إسرائيل للبنان خلفت مئات ألوف الأيتام والمشردين والمعوقين والجياع من فلسطنيين ولبنانيين، بالإضافة لأكثر من مائة ألف قتيل وجريح، وتدمير شديد لوسائل المعيشة لجميع الطبقات. [ ص: 49 ] يقول السيد عدنان كريمة في آخر مقاله عن أصحاب الملايين في لبنان : (لا يختلف خبيران على وجود خلل كبير في التوازن الاقتصادي والاجتماعي في لبنان، والحل المطلوب لإزالة هـذا الخلل لا يكون بالطبع زيادة عدد (المليونيريين) ، ولا بمضاعفة الرواتب والأجور بل بتقريب الفوارق قدر الإمكان بين فئات الشعب، ورفع مستوى ذوي الدخل المتدني، وهنا تكمن مسئولية الدولة في الإسراع بأخذ المبادرة والدخول بقوة إلى ثلاثة قطاعات رئيسة هـي: السكن، والتعليم، والصحة؛ لأن توفيرها يعتبر (صمام الأمان) الوحيد للمشكلة الاجتماعية، ويساهم في الوقت نفسه في لجم (غول) التضخم) .

وهناك في ديار المسلمين مئات ألوف أصحاب ملايين، وربما وصل عددهم إلى (المليون) ، إلا أن المسلمين في العالم هـم ألف مليون عددا؛ أي واحد بالألف يجعلون المال (دولة بينهم) ، وتسعمائة وتسعة وتسعون يشكون إلى الله العدل والتكافل المفقودين.

يجري كل هـذا والمسلمون يسمعون قول الله الكريم في محكم تنزيله: ( ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب ) (الحشر:7) . [ ص: 50 ] ويقول آخر تقرير اقتصادي: (إن حجم الديون الإجمالية لدول العالم الثالث حاليا هـو بين 600 - 1000 مليار دولار، وأشار التقرير الذي أصدرته وزارة التنمية في ألمانيا الاتحادية أن حوالي (660) مليارا هـي ديون الدول (النامية) في آسيا وأفريقيا) [11] .

إذن (مهزلة) الدول (النامية) ستستمر طالما أن (عالم الشمال) يعيش في بحبوحة على حساب بؤس وانسحاق وحرمان آلاف الملايين من سكان (عالم الجنوب) ، فمنه تسرق -حتى الآن- المواد الخام والمنتجات الزراعية، أو تشترى بأبخس الأثمان، ثم تصنع في الغرب المتقدم لتعود بأسعار فاحشة، وليس من مصلحة المستغل تقدم وتطور و (نمو) المستغل -بفتح الغين- ووقوفه على قدميه اقتصاديا وسياسيا. لذلك لم تنجح (تمثيليات) المعونات الاقتصادية والفنية للدول النامية، ولن تنجح إذا استمر الشمال في استغلال الجنوب بهذه الصورة الشنيعة رغم بعض الأصوات الحرة القليلة المعارضة التي تنادي -في الغرب- بإيقاف هـذه الطريقة الظالمة المذلة في العلاقات الاقتصادية بين أغنياء العالم وفقرائهم، يقول المفكر الفرنسي المعاصر روجيه غارودي (أو رجاء غارودي بعد أن شرح الله قلبه بالإسلام) : (لا يغرب عن بال أحد أن النعيم المادي الذي ترتع المجتمعات الغربية في بحبوحته مبني على بؤس سكان العالم الثالث... وهم أربعة [ ص: 51 ] أخماس المعمورة. وليس من المعقول أن يستمر خمسمائة مليون من الغربيين في تنعمهم ورفاهيتهم... بل في بذخهم، في الوقت الذي يوجد فيه على الضفة الأخرى من العالم حوالي أربعة مليارات من الجياع يعيشون في فقر مدقع) [12] .

ويلخص ( جيمس غرانت ) المدير التنفيذي لصندوق الأمم المتحدة للطفولة -اليونسيف- الموقف اليائس بقوله: باختصار تفاؤل الستينيات، والذي قاد إلى واقعية السبعينيات تراجع الآن أكثر، ليترك المجال للشك والتشاؤم الذي يظهر أنه طابع الثمانينيات. إنها خيبة الأمل التي ازدادت حدة وظهرت دلائلها بتناقص إسهام الدول الغنية في مساعدتها للفقراء، وعام 1965م ناشدت الأمم المتحدة للمرة الأولى الدول المعطية أن تزيد مستوى مساعداتها لتصبح (7.0%) من إجمالي الناتج القومي وكان آنذاك (0.49%) فقط. واليوم ورغم جهود دول قليلة تعد على رءوس الأصابع، والتي استجابت لهذا النداء انخفضت النسبة لتصبح (0.37%) [13] .

ويختم ( غرانت ) قائلا: تحسين صحة وتربية أولاد البلاد الفقيرة يمكن إنجازه بكمية أقل مما تصرفه الدول المصنعة على (خمورها) كل عام، كذلك [ ص: 52 ] الوصول إلى الهدف الأعم في توفير الحاجات الأساسية لكل السكان المحتاجين في العالم ممكن بمخصصات سنوية توازي الكمية التي تصرف الآن كل ستة أسابيع لصيانة وزيادة القدرات العسكرية) [14] . [ ص: 53 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية