الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الحرمان والتخلف في ديار المسلمين

الدكتور / نبيل صبحي الطويل

مشكلة النزوح المستمر من الريف إلى الحضر المدينة بأضوائها وأسواقها والخدمات الموجودة فيها تجذب الريفي الطموح، خاصة إذا كان عاطلا عن العمل. وحركة الهجرة المستمرة من القرية إلى المراكز الحضرية ليست حكرا على بلاد العالم (النامي) ، [ ص: 40 ] فهي عارض عام، إلا أن درجة النزوح هـائلة في العالم الفقير لأسباب عدة منها فترات البطالة المتقطعة بين المواسم الزراعية، وضعف المدخول، وانعدام الخدمات؛ ماء وكهرباء ومجارير، ومدارس وعناية صحية... إلخ، وغياب الحاجيات الضرورية بعض الأحيان. كل هـذه عوامل دافعة نابذة من الريف إلى المدينة، التي تجذب بدورها الريفي البسيط بمغرياتها المادية المتعددة.

ولكن كثيرا ممن قاموا بهذه الخطوة المغامرة تحت ضغوط الظروف المعيشية لم يلقوا ما أملوه، فالمساكن مفقودة بالنسبة لأمثالهم، والخدمات معدومة، والعمل ليس ميسرا دائما. وعدم اهتمام المسئولين بالتنمية الجدية للأرياف المحرومة تجعل العودة إلى القرية شبه مستحيلة، أضف إلى ذلك العامل النفسي في الخيبة، بل وربما الشماتة التي قد يقابل بها العائدون الذين هـجروا أصولهم في سبيل حياة متمدنة (أفضل) كانت حلمهم.

والمشكلة الحقيقية هـي في المعيشة الصعبة لهؤلاء النازحين وأكثرهم من العمال غير المهرة؛ لأنه لم تتيسر لهم فرص التدريب والتعلم، إنهم يعيشون في أكواخ من الصفيح والخشب البالي الرقيق، يتكدسون على بعضهم بعضا في مساحات ضيقة، ينقصهم الماء الصالح للشرب، والطعام المتوازن الكافي، وتحيط بهم بيئة ملوثة حيث تتجمع القمامة والأوساخ والمياه الآسنة والذباب والحشرات والجرذان والفئران والحيوانات الشاردة الأخرى. وهذا المحيط مثالي لانتشار الأمراض، خاصة السارية منها، وظهور سوء التغذية وأعراضه. وبما أن تخطيط [ ص: 41 ] المدن الجديدة أمر لم تعرفه أكثر المراكز الحضرية في العالم (النامي) ، حتى الآن لا توجد أية استعدادات لتقديم الخدمات الضرورية لهؤلاء المساكين، فتتعقد أمورهم الحياتية في ثالوث الجهل والفقر والمرض، وفقدان الأمن النفسي الغذائي، وتفشي الانهيار الخلقي والانحرافات النفسانية، وتكثر الأمراض الجنسية، ويغيب القانون كليا عن مثل تلك الأجواء وتسود شريعة الغاب: سرقة وجريمة وعنف وجنوح. تدور حياة هـؤلاء الذين يعيشون على هـوامش المدن الكبرى في الحلقة المفرغة دون أمل في حل قريب لهذه المآسي، وكلما ازداد عدد سكان هـذه المراكز الحضارية الكبرى تزداد المشكلة اتساعا وعمقا وتعقيدا، فتنهار الخدمات على بساطتها أصلا، ويحصل انقطاع التيار الكهربائي، والماء، وتحصل الاختناقات في السير وتكثر الحوادث على الطرق، وتزيد الضوضاء ويتضاعف عدد المدمنين على الكحول والمخدرات، وتنقص المواد الأساسية وتتوتر الأعصاب وتظهر المشاجرات لأتفه الأسباب. ويشكل هـؤلاء التعساء على حواشي المدن جزءا كبيرا من المحرومين في ديار المسلمين.

لقد زرت، وعشت، أياما وأشهرا، في كثير من هـذه الحواضر الكبرى في ديار المسلمين: (لاغوس) في نيجيريا، سكانها 4.6 مليون نسمة. و (القاهرة) في مصر، وفيها حوالي 8 ملايين نسمة. و (كراتشي) في باكستان، وفيها 5 ملايين نسمة. و (جاكارتا) في إندونيسـيا، وفيها حوالي 6 مليون نسمة. و (داكا) في بنغلادش، وفيها حوالي 2.5 مليون نسمة. ورأيت فيها جميعا التناقض المخيف [ ص: 42 ] بين من يملكون الملايين ومن لا يملكون شروى نقير، بين البيوت الفخمة والشوارع العريضة وبين الأكواخ الخشبية والطرق الضيقة، بين الحدائق الغناء في الأحياء السكنية الراقية وبين أكوام القمامة والأوساخ وتجمعات المياه الراكدة والحفر والحشرات والفئران على حواشي الحواضر الكبرى هـذه وفي أحيائها القديمة؛ بين نظافة الثياب الأنيقة للفتية في الأماكن الموسرة والأجسام الممتلئة، بل وربما المترهلة شحما ودهنا من التخمة، وبين الأسمال والخرق البالية على الأجساد الضعيفة الهزيلة المريضة الجائعة، بين الفنادق الفخمة ذات النجوم الخمسة -وكثير منها للأجانب- وبين المقعدين المعوقين من الشحادين الفقراء صغارا وكبارا، على أبواب هـذه الأبنية الرائعة.

يحدث هـذا كله في ديار المسلمين والله تعالى يقول لهم: ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ) (التوبة:71) .

وكان نبيهم الكريم صلى الله عليه وسلم لا يترك شيئا في داره إلا وزعه على الناس المحتاجين، وكان خلفاؤه الراشدون يحملون على أكتافهم أكياس الدقيق إلى الأرامل والمساكين، وكان أنموذج العدل الإسلامي لدى أولي الأمر ( الخليفة عمر بن عبد العزيز ) يكفي الناس جميعا حتى إنهم لم يجدوا في عهده من يحتاج لمال زكاة أو صدقة.

( والرسول القائد والقدوة صلوات الله وسلامه عليه، هـو الذي قال: إن الأشعريين -قبيلة من اليمن- كانوا إذا أجدبوا أو أرملوا -أي: افتقروا، وأصابهم الجدب والقحط- جمعوا ما عندهم من زاد واقتسموه بينهم بالسوية، فهم مني وأنا منهم ) [1] . [ ص: 43 ] ومن تاريخ الإسلام في العهد العباسي نعرف (أن الحكومات المتعاقبة تعهدت بتقديم الرعاية الصحية المجانية للمواطنين جميعا دون تمييز في الأديان والمذاهب) [2] .

فهل نكون رجعيين -يا ترى- إذا طالبنا الآن -بعد أكثر من اثني عشر قرنا هـجريا- أن تعود الرعاية الصحية المجانية للمواطنين كما كان الحال في العهد العباسي؟

إن مشكلة النازحين من الريف إلى المدن الذين يعيشون على هـامش الحواضر، بل على هـامش الحياة هـي -أي: المشكلة- تتمة الصورة البائسة للاجئين وللمحرومين عموما في ديار المسلمين.

التالي السابق


الخدمات العلمية