الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
الركيزة الرابعة: ضرورة التفاعل بين ديناميكية الأفكار.. وديناميكية النظم

لقد عرف ابن خلدون ، الحضارة في مقدمته بأنها: نمط من الحياة المستقرة ينشئ القرى والأمصار، ويضفي على حياة أصحابها فنونا منتظمة من العيش، والاجتماع، والعمل، والعلم، والصناعة، وإدارة شئون الحياة، والحكم، وترتيب وسائل الراحة والرفاهية. وهذا القول يعني: أن الحضارة، ترتكز على ركيزتين أساسيتين هـما: " الثقافة " و " المدنية " .

و " الثقافة " تعني: التطور في الأفكار النظرية، لنظم السياسة، ونظريات الاقتصاد. وأسس القانون، ومبادئ التاريخ وغيرها، من العلوم الإنسانية والاجتماعية .

و " المدنية " تعني: التقدم في العلوم العملية، والتجريبية، كالطب والصيدلة، والهندسة، والزراعة، والكيمياء، وما إليها، مما يرتبط بالقرى والأمصار، على حد تعبير ابن خلدون، فلا يمكن للطب أن يمارس، أو يتطور، دون وجود مستشفيات، ومرافق علاج، ولا الهندسة أن تطبق، دون وجود ورش، ومعامل، وتجارب، ولا الاختبارات الزراعية أن تجرى دون أن ترتبط بالحقول والمزارع. [ ص: 115 ]

ولا شك أن " الثقافة " و " المدنية " ، هـما العنصران الأساسيان للحضارة، تلتحمان، وتتكاملان. على برامج التعليم ـ إن أرادت أن تكون ذات مفعول حضاري متطور ـ أن تعبر عن هـذا التكامل، والتلاحم بين الثقافة والمدنية.

من هـذا نستخلص: أن مدلول الحضارة هـو مزيج من الرقي، في مجالات شتى: كالأخلاق، والسلوك والتربية، والعلوم التجريبية ، والبحتة.

ومفهوم الحضارة الإسلامية، يحتوي هـذا المدلول، ويتجاوزه إلى مفهوم عقدي، وفكري، ووظيفي أوسع وأعمق، وحري بأمتنا، التي تستهدف الحضارة، وتستعد لها، أن تتشبث بهذا المفهوم الفكري الإيماني للحضارة، وألا تفرط في التسلسل المنطقي لإنشائها، حتى يمكنها البدء في دورة حضارية جديدة، تمهيدا للبعث الحضاري المنشود، وأن تحرص على أن يرتكز الجانب المادي للحضارة، على الجانب الفكري الذاتي لأمتنا، لتنشأ حضارتنا في نطاق مناخنا الروحي، المشبع بصفاء العقيدة، الفواح بشذا المبادئ، وأنفاس القيم.

على أن الحالة الفكرية لأية أمة من الأمم تتكون عادة من ثلاثة ألوان من الفكر هـي:

1- الفكر التراثي

وهو عبارة عن تراكمات فكرية تراثية، بكل ما فيها من إيجابيات وسلبيات، وحوافز ومثبطات، وصعود وهبوط، وتقدم وانحطاط. وموقف الأمة من هـذا الفكر، أجدى أن يكون موقف الباحث الأمين في دربه، المقلب في نظرياته، المتمكن من الأخذ منه بما يحقق الأصالة، ويبرز شخصية الأمة، في توازن وقصد، لا إفراط فيه ولا تفريط. [ ص: 116 ]

- الفكر الوافد (الغازي)

وهو الفكر الغازي المتسرب من الحضارات المعاصرة، وهو أخطر ما تواجهه الأمة في انطلاقاتها نحو حضارة عصرية حديثة؛ لأنه أجنبي التربة، غريب النزعة.

وموقف الأمة منه أحرى أن يكون موقف الحذر والتيقظ، تأخذ منه ما يتناسب مع قيمها، وتفتح له من النوافذ، بقدر ما يتلاءم مع تصوراتها للمبادئ الإنسانية، كما عرفها لها ديننا الحنيف.

3- الفكر الذاتي

وهو ذلك البناء العقلي، الذي ينمو من مجموعة القيم والمبادئ، التي تمثل عقيدة الأمة، والذي استقر في وجدانها، عن طريق الإسلام، الذي تؤمن به، وترسب في ذهنها، على أيدي رجال أوتوا الحكمة. ( ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ) ( البقرة:269 ) .

إن تعاقب الأجيال، وقيام حضارات، واندثار أخرى ليجعلنا نؤكد على أن الأفكار يجب ألا تورث مع الأرض. وإنما هـي مهمة كل جيل أن يبصر لنفسه، وكذلك الحال في عالم النظم، التي هـي وليدة عالم الأفكار، من حيث كانت ديناميكية الأفكار تستدعي ديناميكية النظم، وديناميكية النظم، تستدعي، ديناميكية الأفكار وهكذا يدور كل منها مع الآخر، وجودا وعدما، وتكون النتيجة تبعا لذلك، طردا وعكسا من حيث: " السمو الحضاري " أو " الانحطاط الحضاري " .

التالي السابق


الخدمات العلمية