الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

دراسة في البناء الحضاري (محنة المسلم مع حضارة عصره)

الدكتور / محمود محمد سفر

نظم التعليم وعلاقتها بالحالة العلمية والتقنية

إن من الحق أن نقرر: أن التعليم نشأ في أقطار العالم الإسلامي كافة نشأة كان التعليم الديني فيها هـو نقطة الارتكاز لباقي أنواع التعليم؛ إذ كانت له حلقات ومدارس اتخذت من المسجد منطلقا ومقرا.

وقد تطور التعليم الديني من حيث مناهجه، في شتى أقطار العالم الإسلامي، فعلا مرة وسمق، وهبط أخرى وتأخر، ولكنه استمر - على كل حال يشكل الحياة العامة للمسلمين، حتى دقت نواقيس الحضارة الأوروبية، وجلبت معها بخيلها ورجلها العلم الأوروبي، وانبهر المسلمون بما حققه هـذا العلم الأوروبي، إلا أن غالبية ديار الإسلام أقبلت عليه، ولم تجد في دينها ما يردها عنه، واعتبروا أنها بضاعتنا ردت إلينا، وهو على كل حال تراث البشرية، أدلى فيه الأجداد بدلو عظيم، فلم لا نستعيده؟!

ومن هـنا بدأ صراع صامت، بين أسلوب التعليم القديم، وبين الأساليب [ ص: 64 ] الحديثة، واستقر الرأي في كثير من ديار الإسلام، أن تترك معاهد التعليم الديني على مناهجها، ونتجاوزها بتقديم العلم الحديث، بأساليبه ومناهجه في معاهد جديدة.

بدأت معاهد التعليم الديني تفقد ازدهارها بوقف تدفق النابهين والمتفوقين عليها؛ حيث اتجهت الغالبية منهم إلى النوع الجديد من التعليم، الذي يتسم بظاهرة جديدة، ألا وهي المهنية التي فقدها نظام التعليم القديم بإصراره على مناهج وضعت في العصور الوسطى.

خذ مثلا محاولات الأزهر في مصر في الستينيات من هـذا القرن الميلادي، عندما اجتهد في تجاوز مشكلة الانفصال هـذه، بين النوعين من التعليم، فافتتحت كليات مهنية متنوعة، لا تختلف في شيء عن أي كلية أخرى من حيث المناهج، مع إضافة منهج إسلامي فوق المناهج الأخرى، فجاءت التجربة ممسوخة، حيث كان من الأجدى ـ في رأينا ـ " أسلمة " مناهج العلوم الاجتماعية، من علم نفس، واقتصاد، واجتماع، وما إليها بمعاصرة، وفعالية، بدلا من خلطة " سمك، لبن، تمر هـندي " التي سارت عليها الأمور، والتي لم تقف عند هـذا الحد، بل تعدته إلى أن كليات الأزهر الدينية التقليدية بقيت على حالها دون تطوير، مما أفقدها كثيرا من حيويتها، ومن ثم انصراف الدارسين عنها.

تلك مقدمة عامة وسريعة عن نظم التعليم، أردناها أن تؤكد ضرورة هـدم الحدود المصطنعة، بين التعليم الديني، والتعليم المدني، وأن تكون مدخلا لسؤال هـام هـو: أي نوع من الخريجين نريد؟ ولأي غاية اجتماعية نعدهم؟

إن ازدواجية التعليم في العالم العربي والإسلامي، مشكلة يجب إعادة النظر فيها، من أجل نظام موحد للتعليم، ينبثق عن أحسن ما في القديم، وأفضل ما في الحديث. [ ص: 65 ]

لقد انحصرت مناهج التعليم القديمة في القرون الأخيرة، في دراسات فقهية، ولغوية، ولم تعد تدرس في معاهد التعليم المختلفة أي مناهج علمية تجريبية، وأصبح تراث أجدادنا في هـذه المجالات، كأنه ليس تراثنا، ومن هـنا كانت الحرف التي نشأت في العلم العربي الإسلامي، والصناعات التي بدأت فيه، معتمدة على النقل والمحاكاة والتقليد.

وحتى وقت احتكاكنا بالحضارة الغربية، ظللنا لا نعرف كيف نضع بذور الصناعة في بلادنا؛ لأننا طلقنا أنفسنا (في عصور الانحطاط ) من العلم التجريبي وهو ماء الحياة بالنسبة للتقنية المعاصرة، قامت به، وبغيره لا يمكن أن تدوم.

نعود الآن إلى طرح السؤال السابق بصيغة أخرى:

أي نوع من التعليم يلزم لوظيفة اجتماعية معينة؟ بدلا من أن نسأل أنفسنا: أي وظيفة اجتماعية تصلح لهذا الخريج؟

أي أن التعليم في بلداننا، يجب أن يرتبط بمهمة اجتماعية مطلوبة، وهي التي تحدد آفاقه كما ونوعا.

ولا بد من القول في البداية: بأن ربط سياسة التعليم بالتخطيط ضروري، ويجب أن يزداد وثوقا مع الأيام، بحيث يقل فاقد التعلم إلى حده الأدنى، إن لم يمنع تماما. ومن المفيد أن يزداد إيماننا بأن الفجوة التقنية، التي تفصلنا عن العالم المتقدم، يحكم تجاوزها قوانين حضارية لا يمكن إغفالها. فتحول العلوم إلى تكنولوجيا ، تحكمها فعالية اجتماعية، تتأثر بكل العوامل النفسية، والاقتصادية، السياسية، الضاغطة على الأمة، ولن يتم هـذا التحول إلا بعد مرور الوقت الحرج من بدء الأمة في تكديس العلوم في عقلها الباطن.

أخذت بعض أقطارنا الإسلامية تدرك ذلك، وبدأت خطوات جريئة في تطوير التعليم، نرجو أن تتلوها خطوات أخرى في المراحل المختلفة، حتى تستطيع الأمة أن تتجاوز الوقت الحرج؛ لتصبح عملية تحول العلوم إلى تقنية ، أمرا طبيعيا من غير تعسف، ولا تجاوز. [ ص: 66 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية