الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

دراسة في البناء الحضاري (محنة المسلم مع حضارة عصره)

الدكتور / محمود محمد سفر

تدفق المنتوجات الزوالية وظاهرة الاستبدال

رأينا مما سبق، أنه خلال مسيرة التاريخ، كانت هـناك حرف [ ص: 70 ] مستقرة بمقاييس جيل أو أجيال كاملة، ولكن في العصر الحالي، أو قل: في العقدين الأخيرين من القرن الحالي بدأت حرف كثيرة تفقد أرضيتها، وحل الاستبدال " للشيء " الخرب، أيا كان من منتوجات الحضارة المعاصرة محل إصلاحه، وإعادة تشغيله، وصيانته؛ وتم ذلك، لأن التسارع الكبير في استيراد أحدث ما أنتجته المصانع المتطورة، لم يترك مجالا لتطوير الحرف، والمهن التي كانت تقوم بدور الإصلاح والصيانة، فارتفعت تكلفة الإصلاح والصيانة. لماذا لا يستبدل الفرد ثلاجته بأخرى جديدة، إذا كانت تكلفة الاستبدال، لا تفوق كثيرا تكلفة الإصلاح ؟!

أصبح التغيير والاستبدال، ظاهرة متميزة في المجتمعات الغربية، لها عندهم مبررات اجتماعية، واقتصادية ترتبط بالعوامل النفسية، والاجتماعية، لتلك المجتمعات، فهم الذين يصنعون البدائل على أي حال، وهم الذين يطورونها، ويحسنونها، وهم الذي يستفيدون منها في جميع مجتمعاتهم، وزيادة الإنتاجية القومية عندهم، ونحن لا نناقش كل ذلك، ولا نبرره لهم، ولكننا نناقش تكرار الظاهرة نفسها في مجتمعاتنا، بما هـي عليه من تخلف تقني، وتأخر صناعي. إن تكرار الظاهرة عندنا يدل على أن مجتمعاتنا نقلت أشياء الحضارة الغربية، ونقلت معها مظاهر وعادات مجتمعات الغرب الاستهلاكية، دون إدراك إلى أننا لا نصنع ما نستهلك، وهم يصنعونه.

إن هـذا الاستبدال المتتابع لتلك المنتوجات " الزوالية " على حد تعبير " الفن تفلر " مؤلف كتاب صدمة المستقبل سوف يؤثر تأثيرا سلبيا على استيعابنا لماهية هـذه المنتوجات، والتدريب على صيانتها، وبالتالي عدم إعادة انتشار المهن والحرف، وتطويرها، ورسوخها في المجتمع، واحترام أربابها، ومحترفيها من أبناء الأمة.

إن ظاهرة الإخلاد لعالم الرغبات، والخدمات والمستهلكات، ظاهرة [ ص: 71 ] واضحة في مجتمعاتنا. إن لم نتدارك أمرها، فإنها ستجر المجتمعات إلى أمراض اجتماعية كالاتكالية، والاستسلام، والركون، والترف، والدعة إلى آخر السلسلة إن لم تكن قد فعلت ذلك.

خلصنا مما سبق إلى أن كل مجتمع من مجتمعاتنا الإسلامية، أخذ ينتقل بعيدا، رويدا رويدا عن الحرف التي كانت سائدة فيه، والتي كانت تغطي معظم احتياجاته عندما كانت تلك الاحتياجات، بسيطة غير معقدة، إلى مجتمع يلهث وراء عالم الأشياء المتسارع في خطاه.

وعلينا أن نؤكد مرة أخرى، على أن هـذا التسابق في عالم الأشياء، لم يتح لنا فرصة للتعمق في التقنية الغربية الضاغطة، ولم يعطنا فرصة لتعلمها، ومازلنا نقف عند بابها، لم ندخله بعد. والحديث هـنا ذو شجون، يمكن لنا أن نفيض فيه ونعيد، ولكننا نؤثر أن نقول: إننا يجب أن نستغل عشقنا لعالم الأشياء الغربي في العمل على إيجاد وتطوير منظومة حاكمة للتقنية في بلداننا، تكون الصيانة أو فصل عملي فيها.

إننا وإن كنا لا نصنع الأشياء، فلا أقل من أن نصونها، وإننا وإن كنا لا ننتج ما نستخدم، فلا أقل من أن نحافظ على ما نملك، والصيانة مدخل عظيم للتعلم التقني، لو أحسنا تنظيمه، وإدخاله في حياتنا.

ولسائل مهتم بهذا أن يسأل:

ماذا فعلت كليات الهندسة في جامعاتنا لتعزيز مفهوم الصيانة؟

لو أردنا الحديث عن مدى إعداد المهندس للصيانة، لوجدنا أن هـناك قصورا شديدا في الاهتمام بالصيانة والتشغيل في برامج تعليم الهندسة، في الجامعات العربية عموما، ومن ثم عدم إدراك المهندس بوضوح، لدور التشغيل والصيانة، في حياة المنشأة.

وحديثنا عن تقصير كليات الهندسة في الجامعات العربية عموما،، في خلق الوعي وتوطين القدرة لدى المهندس، تجاه منظومة التشغيل والصيانة، هـو [ ص: 72 ] نقد ذاتي نوجهه إلى أنفسنا؛ لأننا محسوبون على التعليم الجامعي ومنه وإليه نعود، فالملاحظ أن مناهج الهندسة، وبرامجها، وخططها الدراسية تهتم ربما بأحدث نظريات التصميم، وبالتحليل الرياضي للظواهر الهندسية، وينسون ولا يقبلون على التصميم العملي إلا قليلا، فإذا انتقلوا إلى النواحي التقنية في المناهج، وجدتها صفرا غليظا.

وهذا أمر لو استمر يشكل ضغطا حضاريا على خريجي كليات الهندسة في العالم العربي.

ليكون حديثنا عمليا فلنأخذ مثلا من الواقع:

خذ منهج الهندسة في ميكانيكا الموائع ( FluidMechanics ) السائد تدريسه في كليات الهندسة اليوم، وابحث في مكوناته الثلاثة، التي يجب أن تكون فيه، وهي الناحية التحليليه، والناحية التصميمية، والناحية التقنية، وسوف تجد أن حوالي 98% من المنهج يركز على الناحية التحليليه لعلم الموائع، بمعدلات رياضية، واستنتاجات، وتفريعات، لا يحتاج إليها طالب الهندسة، ومكانها الطبيعي في كلية العلوم، وهناك فرق بين علم الموائع. وسوف تجد 2% من المنهج للناحية التصميمية، ولن تجد شيئا من الناحية التقنية، والنتيجة أن الدارس لهذا المنهج لا يقدر على إدراك عمليات التشغيل، ونظرياتها، وأساليب الصيانة، فكيف بربك تريد من هـذا الدارس، أن يتخرج بعد ذلك ويتعامل مع الأجهزة والمعدات في الحقل؟ هـم لن يسألوه في المجتمع عن كيف يحل هـذا المعادلة أو تلك التي تصف له الجهاز، ولكنهم يتوقعون منه حدا أدنى من معرفة: كيفية تصميم نظم تحكم للأجهزة (Control Systems ) ، التي تقوم بتوزيع المياه في المدينة، وشبكات أنابيب المياه فيها، وكيفية تشغيلها، وصيانتها، كل هـذا مطلوب في مجتمعاتنا، فنحن لا نصنع شبكات المياه، ولا أجهزة التحكم الآلي، مثل أهل الصناعة المتقدمة، وإنما المطلوب أساسا هـو مجموعة من شبكات توزيع الأنابيب. [ ص: 73 ]

إذا نظرنا بعمق في هـذا المثل الذي سقناه، وجدنا فعلا أن إهمال علم الصيانة هـذا، بدأ من التعليم نفسه، ولذا فإننا ندعو المعنيين بمناهج التعليم في بلداننا أن يعيدوا النظر في صياغة مناهج الجامعة، لتتجه إلى السبيل القويم والفعال، وسوف نتعرض لهذه النقطة بعد قليل بشيء من التفصيل.

على أن الحديث عن الصيانة، يظل حديثا واسعا، ومتشعبا، وذوي شجون، وشئون، وصلة مباشرة بوضع التقنية في مجتمعاتنا، ولهذا سوف نعتبره مدخلا للتعرض للموضوع الأشمل، وهو تنمية التقنية، في الصفحات التالية. [ ص: 74 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية