الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

دراسة في البناء الحضاري (محنة المسلم مع حضارة عصره)

الدكتور / محمود محمد سفر

واقع التقنية في مجتمعاتنا

كانت الصناعات والحرف قديما في مجتمعاتنا العربية والإسلامية راسخة الأسس، وواضحة المعالم، تضمها منظومة مهنية، وتحكمها تقاليد حرفية، وتتحكم فيها اعتبارات عملية، وكان الأبناء يتوارثون الصناعات والحرف من خلال تلك المنظومة عن الآباء، بالمحاكاة، والتقليد، كما كانت دكاكين أهل الحرف والصناعات تمتلئ بالصبية، الذين ينفقون صباهم كله تحت رعاية معلميهم، يتدربون على أيديهم بصبر ويتعلمون منهم بدون ضجر.

بدأت هـذه الطريقة في التعليم والتدريب تختفي رويدا رويدا، ولم يعد الآباء يرسلون بنيهم لحوانيت أهل الحرف والصناعات، وإنما يدفعون بهم إلى المدارس، ودور العلم، يودون لو أنهم أكملوا دراستهم الجامعية، فيملكون بذلك جواز المرور للوظائف العليا. وحدث نتيجة لذلك، شبه اختناق في [ ص: 62 ] عملية التغيير العلمي والتقني، حيث بدا واضحا أن أعداد الجامعيين نمت على حساب قطاع الحرفيين وأهل الصناعة؛ وذلك لاندفاع الأمة في طريق التعليم الجامعي ، فاضمحلت الحرف، وزال معظمها، واستسلم المجتمع إلى التدفق الرهيب للسلع، والحاجات، والمنتوجات، التي صنعتها أيد أجنبية، وتحول بذلك من مجتمع حرفي صناعي بالتقليد والمحاكاة، إلى مجتمع " الياقات البيضاء " التي لا تأكل مما تزرع، ولا تلبس مما تنسج، ولا تسكن فيما تبني، وهذه قد تكون من الأسباب العملية، التي جعلت معظم المجتمعات المسلمة، تابعة واتكالية، وليس لها مخرج من هـذا المأزق الحضاري، إلا باعتناق فلسفة البدء الحضاري، كما أشرنا من قبل [1]

لتسير في طريق الحضارة التقنية.

ونقطة البدء في ذلك هـي تعليم الحرف، وانتشارها بين الأغلبية الساحقة من أبناء المجتمع، في حين يتوجه جزء للتعليم الفني ليكون قادرا على تطوير الحرفة ونموها.. ويستنفر من ذوي العقول النادرة من هـو قادر على متابعة ما يطرأ على العلوم من تطور ونظريات، والنظر في إمكانية تسخيرها لخدمة التقنية المستحدثة.

لقد أفاء الله على العالم الإسلامي ـ بدوله العديدة وشعوبه المتعددة ـ بمصادر طبيعية، ورزقه موارد مختلفة، وعليه أن يسعى جاهدا إلى استثمارها، لأنه يعلم أنها مصادر ناضبة لا محالة، قصر الزمن أو طال، كما أن أمتنا لا بد أن تعي بيقين أهمية الكثافة العددية ، في الموارد البشرية ، وضرورة صياغة وتنفيذ برامج لتأهيلها وتدريبها.

إذن فأمتنا في سباق مع الزمن؛ كي تستفيد من ثرواتها الطبيعية، ومواردها البشرية في تنمية شاملة، وواسعة، ومخططة، لتواجه تحدي نظام اقتصادي عالمي، يخدم الشمال المتقدم، ويستنزف الجنوب المتأخر، ولا [ ص: 63 ] سبيل إلى مواجهته إلا بالاعتماد على سلطان العلم بالتضافر مع التقنية.

والمراقب للتطورات المتلاحقة، في المجالات العلمية، وما يتبعها ويصاحبها من تقدم في التقنية، يحتاج إلى وقفة موضوعية للتعرف على واقع التقنية، وتأثير تطوراتها المتلاحقة على الحالة العلمية والتقنية سلبا وإيجابا، واندثار الحرف والصناعات التقليدية كما أشرنا إليه قبل قليل، ونظرة المجتمع إلى العمل المهني، وعلاقة كل ذلك بتدفق المنتوجات " الزوالية " على المجتمع.

ونهدف باستعراضنا لكل تلك المكونات أن نسعى إلى تشخيص " المرض التقني " الذي تعاني منه مجتمعاتنا؛ لنتعرف بعد ذلك على الفجوة التقنية التي تفصلنا عن العالم المتطور، وأسلوب معالجتها.

التالي السابق


الخدمات العلمية