الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
محنة المسلم مع حضارة عصره

إن ما ذكرناه في الفصل السابق عن الضغط المتواصل، والتأثير الديناميكي المستمر الذي تتعرض له أمتنا من حضارة العصر التي ما كانت لتسود العالم وتحكمه ويتحكم أصحابها بمجريات الأحداث فيه، لولا سلطان القوة التي تمتلكه، بما تنتجه مصانعها من وسائل ومعدات، واكب العلم فيها التقنية، وبما تذخر به نظمها الحاكمة في مجالات السياسة، والاقتصاد. والاجتماع، والفكر، والإدارة من إبداعات. عن الضغط الحضاري وتأثيره الديناميكي يقوم دليلا واضحا أن على أمتنا أن تعقد العزم للتصدي لهذا الضغط الموجه نحوها، من حيث تعلم ولا تعلم، وأن تقف من ذاتها بإصرار وحزم موقفا [ ص: 44 ] صادقا لا تبالغ إن هـي رددت فيه عبارة شكسبير الشهيرة.

نـكون أولا نـكـون؟!.. ذلـك هـو الـسؤال.

ولا تكتفي بالإجابة على هـذا السؤال، بل عليها أن تحدد على أي حال حضاري تكون؟! ومن أين تبدأ.

لقد آن لنا ـ نحن المسلمين ـ أن ندرك أن الحضارة المعاصرة بتقنياتها ونظمها وهما مصدر سلطانها وقوتها، أصبحت تشكل ـ بحق ـ تحديا مباشرا للإنسان المسلم، وأسلوب حياته جدير به أن يتقبله، ويسعى ما وسعه الجهد لمواجهته، فالنظم الاجتماعية والاقتصادية والفكرية الوضعية التي ترتكز عليها تلك الحضارة، والتي يحمل بعضها في ثناياه تعارضا جذريا مع أمر الله وشرعه، تضغط بقوة على المجتمع المسلم أيا كان، وتحيط به من كل جانب، وتلك محطة لا يستطيع الفرد المسلم أن يجتازها إلا بحرص شديد على ذاتيته وتمسك تام بخصوصيته، مع البحث المستفيض والجاد عن البدائل الإسلامية الفاعلة، لما تفرضه حضارة العصر من حلول لمشكلاته، وما تقدمه من خيارات قد لا تتطابق مع التطلعات والأشواق الروحية للأمة.

والحرص على الذاتية، والتمسك بالخصوصية، يتمثلان في المحافظة على القيم، والمبادئ، والأسس النابعة من عقيدة التوحيد، التي يجب أن يدين لها، ويلتزم بتطبيق تعاليمها، ويصوغ حياته على منهجها، لأنه إن هـو فرط فيها فقد تميزه، وافتقد ذاتيته، وعاد كأي إنسان في هـذه الدنيا ذهب يبحث عن مخرج من تخلفه فلم يجد إلا طريق الحضارة الغربية المعاصرة، وما تفرضه من نظم، وقيم ومبادئ، وسلوك، ومعاملات فاعتنقها، وأصبح سجين دوامتها بكل ما لها وما عليها، لا يقدر على الفكاك منها، ويجد نفسه ترسا في آلتها لا يستطيع الخلاص منها، فتلونه بلونها وتشكله بشكلها، وتطبعه بطبعها، وقد تدعوه إلى التفسخ من قيمه فلا يتردد، وتدفع به إلى التحلل فلا يقاوم، كما نرى ذلك واضحا عند بعض أفراد المجتمعات النامية التي عرفت طريقها إلى الحضارة الغربية دون ضوابط، وبدون انضباط، فاعتنقتها [ ص: 45 ] واستبدلت تلك الحضارة من سلوك، وأفكار، ومعتقدات اجتماعية، بما تدين به من قيم، وفلسفة، ومبادئ، وأصالة، فأصبح إنسان تلك المجتمعات كغراب يقلد مشية الحمامة، فلا هـو نسخة كاملة من إنسان الغرب، ولا هـو بقي على حاله محافظا على كيانه، ومؤكدا انتماءه، ومعتزا بشخصيته.

إذن فمعاناة الإنسان المسلم الحقيقية مع حضارة العصر تبدأ يوم يفقد ذاكرته الحضارية، ويتخلى عن ذاته ويقطع صلته بقيمه الفاعلة، والصالح من تراثه فتزول مقاومته، وتقل مناعته، ويرتمي في أحضان السيئ من السلوك، والمعوج من المبادئ والقيم، باسم التقدم والتطور، والتقدم والتطور من كل ذلك براء.

التالي السابق


الخدمات العلمية