الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
1- الحرية

عندما نسمع كلمة ( الحرية ) نتذكر على الفور " قولة الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ( متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟ " .

وقد نتذكر كذلك ( الثورات ) التي قادها أصحابها باسم ( الحرية ) ..

وقد نتذكر السجون ودهاليز التعذيب الجهنمية الرهيبة.

وقد نتذكر أعواد المشانق التي أقيمت وما تزال تقام بين الحين والحين هـنا وهناك بهدف (تأديب) المنادين بالحرية..

وقد نتذكر.. ونتذكر..

قد نتذكر ذلك كله مادام الحديث يدور عن ( الحرية ) ..

ومن العجيب أن ينحصر جل تفكيرنا بالمعنى السياسي للكلمة، مع أن للحرية معاني كثيرة أوسع وأشمل من مجرد فهم سياسي محدود.. فما الذي يجعل تفكيرنا يتوجه نحو السياسة وحدها دون سواها؟

إنه – دون ريب – ضغط الواقع الذي يعيشه الإنسان اليوم، في كثير من بلدان العالم، حيث حرية الرأي، وحرية الحياة، وحرية التعليم، وحرية التملك.. وكل الحريات الأخرى مهددة بالإعدام في لحظة واحدة نتيجة قرار سياسي أحمق.

غير أن هـذا الواقع الأليم – على فداحته – لا يصح أن يحجب عن الرؤية الموضوعية للمسألة، ولا أن يمنعنا من الفهم الصحيح للحرية، [ ص: 106 ] التي ننادي جميعا بها.. لأننا من غير تلك الرؤية، وهذا الفهم، لن نستطيع أن نتجاوز أزمتنا الحضارية الراهنة، بل قد نزيد هـذه الأزمة تعقيدا، وقد ينتهي بنا الأمر إلى خسارة أخرى من حريتنا، التي يفترض ألا نقبل بها إلا كاملة، غير منقوصة.

فما هـي الحرية يا ترى؟

ربما كانت الحرية من أكثر المصطلحات التصاقا بحياة الإنسان وبمصيره، وربما كان هـذا هـو السبب، الذي من أجله يتعرض مفهوم الحرية للكثير من عمليات التشويه والتلبيس والتلاعب.. وقد ظلت الحرية على مدار التاريخ عرضة لعمليات ( تحجيم ) ماكرة يراد منها أن تخدم مصالح بعض أصحاب القرار، الذين لا يؤمنون أصلا بالحرية إلا بمقدار ما تمنحهم هـذه الحرية من ( سلطات ) تضاف إلى رصيدهم من التسلط والطغيان والجبروت.

ويقودنا البحث عن معنى الحرية أول ما يقودنا إلى رحاب القرآن الكريم الذي يخبرنا بأن الله عز وجل – الذي خلق السموات والأرض – لم يترك هـذا الخلق ليعيش على هـواه، ويتصرف بلا ضابط ولا نظام ( وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين )

(الدخان: 28) ، بل أخضع الله ذلك كله لمجموعة من السنن لتحكم مسيرة هـذا الخلق ( وخلق كل شيء فقدره تقديرا ) ( الفرقان: 2) . وتوحي آيات كثيرة بأن هـذه السنن تعد بمثابة حواجز تحد من حرية الإنسان في هـذا العالم، وتقيد حركته، نلمح هـذا مثلا في قوله تعالى: ( يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا ) (الرحمن: 33) فالنفاذ لا يكون إلا لوجود مانع أو حاجز، لكن إرادة الله سبحانه شاءت ألا تكون هـذه الحواجز مطلقة بحيث لا يستطيع الإنسان الفكاك من أسرها، [ ص: 107 ] بل جعل الله عز وجل هـذه السنن قابلة للتسخير من قبل الإنسان، لكي يتمكن من القيام بأمانة التكليف، وهذا معنى قوله تعالى ( وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه ) ( الجاثية: 13 ) ، لكنه سبحانه جعل شروطا لا بد للإنسان أن يوفرها حتى يتمكن من تسخير السنن الربانية، ومن تلك الشروط أن يعرف طبيعة السنن، التي تحكم الأشياء التي يريد تسخيرها، وأن يهيئ الظروف المواتية لهذا التسخير.. نلمح هـذا المعنى في قوله تعالى تعقيبا على تحدي الجن والإنس أن ينفذوا من أقطار السموات والأرض في ختام الآية السابقـة من سـورة الرحمن ( لا تنفذون إلا بسلطان ) ( الرحمن: 33 )

ويرجح أن السلطان هـنا هـو معرفة السنن الربانية التي تعين الإنسان على الطيران وتجاوز أقطار السموات والأرض [1]

.. والملاحظ أن الإنسان عندما استطاع أن ينفذ من أقطار السموات والأرض اكتسب هـامشا جديدا من الحرية، إذ تحرر من قيد الجاذبية، وتحرر من قيد السرعة، التي منحت له فطرة، وهي سرعة مشيه على قدميه، فأصبح قادرا على الحركة بسرعات مذهلة تتجاوز عشرات الآلاف من الأميال في الساعة الواحدة

ويمكن أن نزيد هـذه الفكرة توضيحا بمثال آخر.. فلو أننا أتينا بإنسان لا يعلم شيئا عما وصلت إليه الاختراعات والتقنية الحديثة من تقدم، [ ص: 108 ] ثم عرضنا عليه سيارة.. فما يكون موقفه منها يا ترى؟ إنه – دون ريب – سيقف حيالها حائرا مستغربا مندهشا، وربما فر منها خائفا مذعورا فهي بالنسبة له عالم مجهول تماما، ينطوي على كل ما ينطوي عليه المجهول من خوف ومفاجآت.

ولو أننا طلبنا من هـذا الإنسان، أن يتصرف بالسيارة على مقدار ما لديه من علم فطري، فربما اكتفى باستخدامها مأوى لدجاجاته.. وهذا غاية ما قد يقوده إليه تفكيره من استخدام هـذه الآلة العظيمة.. أي أنه لن يستطيع أن يستفيد من الحرية الواسعة، التي يمكن أن توفرها السيارة له، وما ذلك إلا لجهله بالقوانين التي تحكم عملها.. بينما نجد أن إنسانا آخر لديه علم بتلك القوانين، سيتصرف بالسيارة بصورة مختلفة تماما، فهو يعرف كيف يشغلها، وكيف يحركها، وكيف يجعلها تحمل متاعه، وتجري به بسرعة كافية، تعينه على توفير الوقت، وتقريب المسافات.. فهذا الإنسان اكتسب بعلمه بالسنن، التي تحكم عمل السيارة هـامشا إضافيا من حرية الحركة في هـذا العالم، كما اكتسب قوة جديدة أضيفت إلى قوته الجسدية، فأصبح قادرا على بلوغ أماكن، وتحقيق أهداف، لم يكن ليبلغها أو يحققها بقوته الجسدية وحدها.

الحرية والعلم بالسنن

وعلى هـذه الشاكلة من المعرفة بالسنن يكتسب الإنسان المزيد من الحرية في هـذا العالم.. ونستشف من خلال استعراض الخلق في القرآن الكريم أن الإنسان أول ما أوجده الله فوق هـذه الأرض أصيب بخيبة أمل كبيرة، فبعد أن كان يعيش في الجنة سيدا، ينعم بحرية مطلقة.. أهبط إلى الأرض ليجد نفسه فجأة في عالم يتنكر له، عالم مختلف تماما عن عالم الجنة؛ لأن كل ما فيه عصي على الأمر المباشر.. كان آدم في الجنة يأمر فيطاع.. أما هـنا في عالم الأرض فإن [ ص: 109 ] الأمر وحده لم يعد يكفي للوصول إلى الهدف، بل لا بد من جهد، وعلم بالقوانين، أو السنن، التي تحكم هـذا العالم.. وهكذا وجد آدم نفسه فجأة مقيدا داخل حدود السنن.. ووجد نفسه بسبب جهله بسنن العالم الجديد خاضعا لسيطرة المخلوقات الأخرى، والتي كانت أكثر منه عددا، وأشد قوة فاحتار:

- ماذا يصنع؟

- أيستسلم؟

- أيقف مكتوف اليدين أمام هـذا الواقع الجديد، الذي اختاره بنفسه طائعا؟

- أم يتحرك ليسترد حريته من جديد؟

ولم تطل به الحيرة، فاختار – بما وهبه الله من عقل – أن يتحرك، وراح يواجه العالم المحيط به، بكل ما آتاه الله من عزم وتوق إلى الحرية، فأخذ يفك طلاسم الوجود، ويكشف من أسراره ما شاء الله له أن يكشف، فاهتدى إلى معرفة الكثير من السنن، التي على نهجها تسير الحياة، وبهذه المعرفة السننية، تمكن من تسخير العالم المحيط به، وتحرر من السيطرة التي كانت مفروضة عليه، وشيئا فشيئا راحت تتوسع دائرة حريته، حتى تمكن في النهاية من قلب الموازين، وتغيير المعادلات، فأمسى العالم الذي كان يفرض عليه سيطرته رهن أوامره هـو

ما مدى حريتنا في عالم اليوم؟

ويمكن أن نوسع مفهوم الحرية كما قدمناه، لننظر على ضوئه إلى أزمتنا الراهنة.. فبعد عصور التخلف والانحطاط والأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.. التي تعاقبت على أمتنا، أصابنا الوهن، [ ص: 110 ] وقعدت بنا الهمة عن متابعة الدرس والبحث، والسير في الأرض، لكشف المزيد من السنن الكونية، التي كان يمكن أن نستفيد من تسخيرها في عمارة الأرض، وتشييد الحضارة الإنسانية التي نتوق إليها..

وكان من نتيجة تخلفنا أننا أصبحنا اليوم نقف أمام ما استجد في العالم من اكتشافات واختراعات وحقائق، موقف ذلك الذي وقف خائفا مهزوما أمام السيارة، لا يدري ما طبيعتها، ولا كيف يتعامل معها.

وأما ( الآخرون ) فقد انطلقوا بالمقابل يبحثون ويدرسون ويجربون ويكتشفون، حتى عرفوا الكثير من سنن الوجود، فكسبوا بذلك هـامشا رائعا من الحرية.. هـذا في الوقت الذي ضاقت فيه مساحة الحرية ( المتاحة ) لنا.. فانتهت بنا هـذه المعادلة غير المتكافئة، أن أمسينا تابعين غير متبوعين، وهذا جانب هـام من أزمتنا جدير بوقفة تأمل طويلة

ويخطئ من يظن أن سبب أزمتنا الراهنة نقص في الطاقات المادية.. فإن هـذه الطاقات مبثوثة في الأرض كلها، حتى لا تكاد تجد دولة من دول العالم إلا وتجد فيها من الثروات والطاقات ما يغنيها ويكفيها، لتعيش حياة حرة كريمة هـانئة.. وربما كانت بلادنا من أغنى الأرض من حيث خصوبة أراضيها، ووفرة الثروات المخبوءة فيها.. فمـا الذي ينقصنا إذن؟

إن الذي ينقصنا حقا هـو موقف متجدد من الحياة، ونظرة متجددة إلى واقعنا.. موقف متجدد ونظرة متجددة ينطلقان على هـدى التوجيه الرباني الحكيم ( قل انظروا ماذا في السماوات والأرض ) (يونس: 101) فلقد غفلنا عن هـذه الدعوة الربانية أمدا بعيدا، وقصرنا في دراسة السنن التي جعلها الله سببا لتسخير هـذا الكون.. ويوم نعاود البحث والدرس، ونفهم طبيعة هـذه السنن، ونهيئ الشروط اللازمة لتسخيرها.. فيومئذ يمكن أن تنفتح السبل أمامنا، وتنهار الحواجز التي قيدت حريتنا عصورا طويلة [ ص: 111 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية