الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
6- الابتلاء والمحنة

.. لقد شاءت إرادة الله عز وجل أن تكون حياة الإنسان فوق هـذه الأرض سلسلة متواصلة لا تكاد تنتهي من الابتلاءات والمحن، وفي هـذا يقول سبحانه وتعالى : ( تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور ) (الملك: 1-2 ) وهذا الابتلاء قد يكون بالخير أو بالشر: ( كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون ) (الأنبياء: 35 )

وقد يكون الابتلاء للمؤمنين في سبيل تمييز المجاهدين منهم والصابرين ( ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم ) (محمد: 31) [ ص: 131 ] فالابتلاء يمكن أن يكون في أي شأن من شئون الحياة، فالله عز وجل خلق البشر، واستخلفهم في الأرض، ولم يتركهم يهيمون على غير هـدى، بل أرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين، فبينوا لهم سنن الهداية والرشاد، وبشروهم بالفوز في الدنيا والآخرة، إن هـم أخذوا بها واتبعوها، كما حذروهم من مخالفة هـذه السنن، وأنذروهم من عذاب الله إن هـم ضلوا عنها، وتنكبوا جادة الصواب.. فلم يعد إذن للناس من حجة بعد الرسل، بل أصبحوا بعد الرسالات في غمرة الابتلاء والاختبار، وغدوا مطالبين بتحري الصواب في شئونهم كلها، وإلا سقطوا في الامتحان, خسروا الدنيا والآخرة.. ويالها من خسارة وفي هـذه الطريق الصعبة، طريق الابتلاء تعترض الإنسان شدائد ومحن شتى فنجد أنه يتخذ حيالها أحد موقفين:

* الموقف الأول:

حين تصيب الإنسان شدة من غير قصد منه، ولا إرادة، ولا تدبير، فهذا الموقف هـو ما يصح أن نطلق عليه اسم ( الابتلاء ) ، والعبد المؤمن مأمور حين يبتلى على هـذه الشاكلة أن يصبر على الشدة، وألا يقنط من رحمة الله، وأن يسأل الله تفريج كربه.. وهو مأجور بإذن الله على ذلك كله.

* الموقف الثاني:

حين تصيب الإنسان شدة نتيجة تدبير منه، واختيار، أو ممارسة فعلية خاطئة، فهذا النوع من الابتلاء يصح أن نسميه مصيبة أو عقوبة، حلت به نتيجة ما قدمت يداه.

ونضرب لهذين الموقفين مثالين من عالم الطب والصحة.. فالمرض يمكن أن يصيب الإنسان دون أن يكون قد عرض نفسه للأسباب الداعية للمرض، بل قد يكون اتخذ الاحتياطات الوقائية، التي يغلب على ظنه [ ص: 132 ] أنها تمنع المرض، ولكنه مع هـذا يصاب بالمرض.. ففي مثل هـذه الحال نقول: إن الشخص تعرض للابتلاء.

وأما المثال الآخر، فهو نقيض للأول، ونشاهده عندما يصاب الشخص بالمرض نتيجة تفريطه في أمور صحته، وعدم أخذه بأسباب الوقاية، كأن يتناول طعاما أو شرابا يضر بصحته، أو يزني، أو يتناول المخدرات.. فهذا الشخص يعد مفرطا في أمر صحته، ومن ثم يصح أن نعد ابتلاءه نوعا من العقوبة، التي حلت به نتيجة مخالفته لقواعد الصحة أو للسنن التي بها يمتنع المرض بإذن الله.

ويظهر لنا هـنا الفارق الجوهري ما بين الابتلاء والعقوبة.. ويمكن أن نسوق أمثلة كثيرة لزيادة الإيضاح، ولا بأس أن نتناول موضوع الجهاد من هـذا المنظور، وبخاصة أنه كثر الحديث حول هـذا الموضوع في أيامنا الحاضرة.. فالمؤمنون مأمورون ابتداء بالإعداد لمواجهة أعدائهم قال تعالى: ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم ) (الأنفال: 60) فبعد هـذا الأمر الرباني الصريح بالإعداد لا يصح أن يغفل المؤمنون عن أخذ الأهبة، وتجهيز ما يلزم من عتاد وعدد، استعدادا للجهاد، ولا يجوز لهم أن يدخلوا المعركة ضد معسكر الكفر، إلا بعد أن يستوفوا شروط القتال، فيخططوا للمعركة تخطيطا دقيقا واعيا بكل الملابسات، ويجندوا طاقاتهم البشرية والمعنوية تجنيدا مناسبا، حتى يغلب على ظنهم أنهم أخذوا بالأسباب، التي تكفل لهم النصر بإذن الله.. فإن هـم فعلوا هـذا، ودخلوا المعركة صابرين مقبلين غير مدبرين، ثم لم ينتصروا، كانت هـزيمتهم حينئذ ابتلاء من الله؛ لأن الهزيمة وقعت لأسباب خارجة عن إرادتهم وتدبيرهم.. والمجاهدون حينئذ مأجورون بإذن الله على جهادهم على الرغم من هـزيمتهم. [ ص: 133 ] وعلى النقيض من ذلك تكون حال المؤمنين، لو أنهم دخلوا المعركة بلا إعداد ولا تخطيط ولا معرفة بأصول القتال.. لأن هـزيمتهم حينئذ تكون عقوبة على ما فرطوا في أمرهم، ولمثل هـذا ألمحت الآيات الكريمات من سورة آل عمران، والتي حملت المؤمنين مسئولية ما أصابهم يوم ( أحد ) ، عندما قصر بعضهم، فغادروا مواقعهم التي أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتزامها، وذلك طمعا منهم في الغنيمة، فقال الله تعالى في حق هـؤلاء: ( أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هـذا قل هـو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير ) (أل عمران: 165) والمصيبة التي تشير إليها الآيات الكريمات، هـي ما أصاب المسلمين يوم أحد من قتل السبعين منهم، وأما الإشارة في قوله تعالى: (

قد أصبتم مثليها )
فتعني يوم بدر ، فقد قتلوا في ذلك اليوم سبعين رجلا من المشركين وأسروا سبعين آخرين، وقد أرجعت الآيات سبب المصيبة التي أصابتهم يوم أحد إليهم هـم أنفسهم ( قل هـو من عند أنفسكم ) (آل عمران: 165) بمعنى أن هـزيمتهم كانت عقوبة لهم على تفريطهم

ولعلنا بهذه الأمثلة قد أوضحنا بما يكفي الفرق ما بين معنى الابتلاء، ومعنى العقوبة، إذ كثيرا ما يخلط الناس بين المعنيين، فيظنون أن المصائب التي تنزل بهم نتيجة أخطاء يرتكبونها، أو نتيجة مخالفة لسنة معروفة من السنن، التي فطر الله عليها أمور الخلق.. يظنون ذلك نوعا من الابتلاء يكرمهم الله به، فنراهم يستبشرون بما ينزل بهم، لاعتقادهم بأن الله اختارهم للابتلاء كرامة لهم، حتى يجزل لهم الجزاء.

- وكان حريا بمثل هـؤلاء أن يحسوا بالندامة على ما بدر منهم..

- وكان الأجدر بهم أن يرجعوا إلى أنفسهم ( قل هـو من عند أنفسكم )

لكي يعرفوا الخلل، ويشمروا عن ساعد الجد، ويبدأوا عملية التقويم، وجبر ما انكسر، والنهوض من السقطة [ ص: 134 ] وهذا ما يجب علينا أن نفعله عند كل شدة.. أن نعرف إن كنا في موقف ابتلاء أم في موقف عقوبة؟ لأن الفرق ما بين الموقفين عظيم

التالي السابق


الخدمات العلمية