الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
2- الثبات وثبات السنة يعني أنها لا تتبدل ولا تتحول، مصداقا لقوله تعالى: ( فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا ) (فاطر 43) .

* والتبديل ( لغة ) : التغيير، قال تعالى: ( وإذا بدلنا آية مكان آية ) (النحل: 151) ، وقال: ( ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة ) (الأعراف 95) .

* وأما التحويل ( لغة ) فهو التحول من حال إلى حال، يقال: تحولت القوس، أي صارت معوجة بعد استقامة، ويقال، حوله: أي نقله من موضع إلى آخر.

فهذان الأمران ( التبديل والتحويل ) لا يطرأن أبدا على ما بث الله من سنن في هـذا الوجود [1] ، فإن سنن الله باقية على حالها، منذ خلق الله السموات والأرض، وهي مستمرة على هـذه الحال من الثبات إلى أن يشاء الله.. وفي هـذا ما فيه من دلائل بالغة، توحي برحمة الله عز وجل بالعباد.. فلولا ثبات السنن على هـذه الشاكلة لما أمكن للبشر أن يسخروها أو يستفيدوا منها، ولما كان استخلاف البشر في الأرض ممكنا، إذ كيف يمكن أن يستخلفوا في عالم هـلامي لا يثبت على حال؟ وكيف يمكن أن يسخروا مثل هـذا العالم الذي لا يحكمه قانون، ولا تضبطه سنة؟

ومن جهة ثانية.. لو لم تكن سنة الله ثابتة على هـذه الحال، لما كان في هـذا الوجود توازن ولا استقرار، ولكانت الفوضى حينئذ هـي سمة الخلق كله.. [ ص: 68 ] وهذا ما يتنافى مع الواقع المشهود، الذي تدلنا كل صغيرة وكبيرة فيه على آيات التوازن والاستقرار، كما قال تعالى في وصفه: ( وكل أمر مستقر ) (القمر: 3) .

ولكن.. ما الذي نعنيه بثبات السنن؟ إننا حين نصف السنن بالثبات، فإننا نعني بذلك ارتباط الأسباب بالمسببات، أو ارتباط العلة بالمعلول، ارتباطا ضروريا لا ينفصم، إلا أن يشاء الله.. فقد اقتضت حكمة الخالق سبحانه، أن يكون له في كل حادثة سبب يؤدي إليها، وأن يكون وراء كل معلول علة يرتبط بها.. وهذا ما يعطي السنن صفة الثبات..

ومما لا ريب فيه أن الكون لو لم يكن خاضعا لسنن ثابتة، لا تتبدل، ولا تتحول، ولو كانت الأحداث فيه تجري مصادفة بلا ضابط يضبطها كما يدعي الملحدون

[2]

.. لما كان ثمة ضرورة إذن لوجود تماثل بين ذرات العنصر الكيميائي الواحد مثلا، ولما كان من الضروري أن تشترك جميع ذرات هـذا [ ص: 69 ] العنصر بصفات معينة، تميزها عن غيرها من ذرات العناصر الأخرى، ولكانت ذرات العناصر المختلفة في تبدل مستمر، وعندئذ يكون من الجائز أن تحدث الظاهرة في بعض ذرات العنصر الكيميائي، ولا تحدث في غيرها من ذرات العنصر نفسه. لا لشيء إلا للمصادفة وهذا ما لا يقبله منطق العقل ولا تؤيده الوقائع الملموسة والمشاهدة، والتي تثبت كلها التقدير والتدبير في أمر الخلق كله، ونفي العبث عنه، وتوحي بالثبات في السنن، التي تحكم كل شيء فيه.. وهنا.. قد يتبادر إلى الذهن سؤال: هـل ثبات السنن ماض إلى مالا نهاية؟ أم أن له أجلا معلوما؟

ونقول: إن الثبات في سنن الله ليس ثباتا أبديا لا نهاية له، بل هـو ثبات موقوت، والظاهر من نصوص قرآنية عديدة أن نهايته تتزامن مع انتهاء مهمة الإنسان فوق هـذه الأرض، فيوم تنتهي هـذه المهمة، ينتهي أجل السنن، التي تسود اليوم عالمنا، ليبدأ عمل سنن أخرى قدرها الله للحياة الآخرة.. نجد مصداق هـذا في قوله تعالى: ( فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار ) (إبراهيم: 47-48) فإن يوم القيامة - كما يخبرنا القرآن الكريم - يمثل نقطة تحول حاسمة، ليس في حياتنا نحن البشر فحسب، بل في حياة الكون كله.

اعتراض: وقد كنت في أحد الأيام أعرض فكرة ثبات السنن على واحد من أصحابي المتخصصين بالدراسات الجيولوجية فأبدى اعتراضه على صفة الثبات هـذه، وقال: (.. لا أحسب أن السنن التي تتحكم بالكون ثابتة على هـذه الصورة، وحين نتتبع مثلا تاريخ المخلوقات، التي تتابع ظهورها على وجه الأرض، فإننا نلاحظ حدوث تبدل في الخلق، مما يدل دون ريب على [ ص: 70 ] حدوث تبدل في السنن التي تحكم هـذا الخلق.. فقد أثبتت المشاهدات والدراسات الجيولوجية الكثيرة، أنها سادت فوق الأرض - خلال حقبة تاريخية بعيدة - حيوانات بالغة الضخامة، كالديناصورات وأفيال الماموث وغيرها من الحيوانات الماردة، كما انتشرت في تلك الحقبة أنواع عملاقة من الشجر والنبات.. ثم انقرضت تلك المخلوقات، وظهرت من بعدها مخلوقات أخرى تختلف عنها اختلافا تاما، ومن هـذه المخلوقات الجديدة.. الإنسان.. أفلا يدل هـذا التبدل في الخلق على تبدل في سنن الحياة ؟) .

وقبل أن أجيب صاحبي، أردف يقول: (ومن جهة ثانية، فقد شهدنا في العصر الحاضر اختفاء بعض الأمراض، التي كانت سائدة في عالمنا، كما شهدنا ظهور أمراض أخرى جديدة، فقد اختفى داء الجدري مثلا من على وجه الأرض منذ سنوات، ولم تسجل منه أية حالة منذ شهر تشرين الأول ( أكتوبر ) 1977م كما شهد هـذا القرن ظهور داء جديد تماما، هـو داء نقصان المناعة المكتسب، الذي اشتهر باسم (الإيدز) والذي سجلت الحالة الأولى منه عام 1981م [3]

.. أفلا يدل هـذا على تبديل في السنن التي تتحكم بحياة المخلوقات ؟ [ ص: 71 ] فقلت لصاحبي: إن هـذه الأمثلة التي أتيت بها ليس دليلا على التبدل في السنن، بل إنني لأرى فيها دليلا آخر يؤيد ( الثبات في السنن ) ولنأخذ المثال الأول الذي ذكرته عن اندثار المخلوقات العملاقة التي يقال: إنها سادت في الأرض قبل خلق الإنسان.. فأنت تعرف يا صديقي دون شك ما انتهى إليه العلماء حول اندثار تلك المخلوقات، إذ يرجحون أنها اندثرت لسبب عادي، أو قل سنة معروفة من سنن الحياة، وهي أن لكل جسم حي درجة حرارة معينة لا يستطيع العيش خارج نطاقها، وقد أظهرت الدراسات الجيولوجية أنه داهم تلك المخلوقات عصر جليدي بالغ القسوة، لم تستطع تلك المخلوقات أن تصمد أمامه، فقضت نحبها واندثرت عن بكرة أبيها.. ثم شاءت إرادة الله عز وجل ، أن ينحسر العصر الجليدي، وأن يسود الأرض عصر جديد يناسب حياة البشر، ومخلوقات أخرى قدر الله خلقها في ذلك الزمن..

ولم يصطبر صاحبي حتى أكمل حديثي، بل اعترض قائلا: ( وهذه العصور التي تتعاقب بين وقت وآخر على سطح الأرض أليست ناشئة عن تغيير أو تبديل في السنن؟ ) .

فقلت: لا.. وإنما تتعاقب هـذه العصور كما تتعاقب فصول الربيع والخريف والصيف والشتاء، بنظام ثابت، وتوقيت محدد، وفق سنن ربانية محكمة.

ثم تابعت أقول: وأما مثالك الآخر، الذي اخترته من عالم الطب، فهو كذلك لا يؤيد اعتراضك على ثبات السنن، فالجدري مثلا الذي اختفى منذ سنوات قريبة، لم يختف نتيجة تغيير في سنة المرض، بل اختفى لأسباب معروفة، أهمها تعميم استخدام اللقاح الواقي من الجدري على نطاق واسع في بلدان العالم قاطبة. [ ص: 72 ] قال صاحبي يعترض من جديد: ولكن اللقاح لم يعد مستعملا الآن، ومع هـذا لم تعد تسجل أية حالات جديدة من المرض ؟

قلت: أجل، هـذا صحيح فعلا، فقد أوقف العلماء استخدام اللقاح لأنهم أصبحوا واثقين من أن الجنس البشري قد اكتسب نوعا من المناعة المتأصلة، التي أصبحت تشكل إخلالا في سنة الإصابة بالجدري.. إذ تتطلب هـذه السنة الخاصة بالعدوى بالأمراض المعدية، وجود عاملين رئيسيين، هـما:

1 - العامل الممرض ( وهو فيروس الجدري في المثال المذكور ) .

2 - الجسم القابل للعدوى والمرض.

ويعتقد أن لقاح الجدري، جعل أجسام البشر غير قابلة للعدوى والمرض بجرثومة الجدري، أي حدث إخلال بالعامل الثاني، الذي يلزم لحدوث هـذا المرض.. وهذا يعني أن سنة الإصابة بالمرض لم تتعطل أو تتبدل، بل حدثت هـنالك موانع حالت دون فعل هـذه السنة، وهذا - طبعا - بالنسبة للجدري فقط، وأما بقية الأمراض السارية، فلم يحدث فيها مثل هـذا، ومازالت هـذه الأمراض تصيب أعداد كبيرة من البشر كل يوم.. مما يعني أن داء الجدري قد يعود إلى الظهور مستقبلا، إذا ما زالت الموانع التي تحول دون ظهوره اليوم [4] .

وكما هـو الحال بالنسبة لداء الجدري، فكذلك الحال بالنسبة لداء ( الإيدز ) [ ص: 73 ] فهو يخضع أيضا لسنة الأمراض السارية التي أشرنا إليها.. وقد ظهر هـذا الداء عندما تهيأت الظروف لظهوره.

وقاطعني صاحبي فقال: وما قولك في الحديث الشريف الذي جاء فيه ( .. لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم ) [5] ؟

قلت: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا ينطق عن الهوى.. ولكن هـذا الحديث يا صاحبي يمثل برهانا على ثبات السنن، فإن ظهور أوجاع جديدة بين الناس، لا يعني أنها تتطلب خلق سنن جديدة من أجلها، وإنما يكفي أن تتوفر الشروط اللازمة لحصولها، وهي كما قلنا آنفا:

وجود العامل الممرض، أي فيروس الإيدز بالنسبة للحالة التي تعرضها، وهذا الفيروس ربما يكون قد خلق قبل هـذا الزمان بآماد بعيدة، أو أنه خلق حديثا بمشيئة الله، نتيجة تفاعل بعض السنن الكونية، فيما بينها، بسبب ظروف طارئة جديدة.

- والعامل الآخر استعداد الجسم البشري للإصابة بهذا المرض، وهذا الشرط يمكن أن يتوفر في أي زمان، إما لأن جسم الإنسان يمتلك أصلا مناعة ضد المرض الجديد، وإما لضعف يطرأ على الجسم فيجعله قابلا للعدوى بهذا المرض.. وقد اثبتت الدراسات الحديثة أن تعاطي المخدرات، وممارسة الشذوذ الجنسي، يضعفان مناعة الجسم [6] ، ومما يؤيد هـذه الحقيقة انتشار داء الإيدز خاصة في البلاد التي فشت فيها [ ص: 74 ] مثل هـذه الفواحش.. وعلى هـذه الشاكلة يمكن أن نفهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فهو لا يحتم حصول تغيير أو تبديل في السنن التي فطر الله عليها أمور خلقه.

موقف الإنسان تجاه ثبات السنة:

.. وثبات السنة على صورة واحدة لا تتبدل، يشكل نوعا من العقبة أمامنا بقدر ما يمنحنا قدرة على التعامل معها والتحكم بمسارها، إذ كيف يمكننا أن نوجه السنة أو نسخرها لخدمتنا، ونحن لا نملك أن نغير شيئا من طبيعتها ؟ هـنا يمكن أن نشبه السنة بالجدار المتين، الذي لا يمكن هـدمه، ولا اختراقه، ولا زحزحته عن مكانه، فمثل هـذا الجدار يمثل - دون ريب - نوعا من التحدي أمامنا.. غير أننا يمكن أن نواجه هـذه العقبة دون تغيير شيء من صفات الجدار.. فيمكننا مثلا أن نستخدمه للاستناد وإقامة جسر فوقه، أو نستخدمه كجزء من بناء غرفة، أو نستخدمه لدرء الريح والشمس.. وبهذا نستطيع التحكم بالجدار من غير تبديل في وضعه أو اتجاهه أو صفاته.. وكذلك هـي سنن الله في الخلق، والله عز وجل وهبنا القدرة على تسخيرها في شئون حياتنا بهدايته لنا إلى كشف صفاتها، وإعطائنا القدرة على التصرف بها، من خلال هـذه الصفات، وليس من خلال تغييرها.

ويمكن أن نقدم مثالا آخر يزيد الفكرة وضوحا.. فقد خلق الله عز وجل العناصر الكيميائية المختلفة، وجعل لكل منها صفات كيميائية وفيزيائية ثابتة لا تتغير، ومع هـذا فقد استطاع الإنسان بفضل الله أن يحصل من هـذه العناصر على صفات جديدة، من خلال التفاعلات التي تتم بين بعض العناصر وبعضها الآخر. [ ص: 75 ] وتعد سنة الله في الخلق بمثابة عناصر كيميائية، ذات صفات ثابتة لا تتغير، وكما نحصل من تفاعل العناصر الكيميائية على مركبات جديدة، وصفات جديدة، فكذلك التفاعل بين السنن، التي فطر الله عليها أمور الخلق، فإن هـذا التفاعل يمدنا بقدرات تسخيرية جديدة، لم تكن متاحة لنا من قبل.. ونضرب لهذا مثلا من عالم الفضاء والأقمار الصناعية.. فمن المعلوم أن هـناك سنتين مختلفتين تتحكمان في دوران الأقمار الصناعية حول الأرض:

(1) سنة الجاذبية الأرضية.

(2) وسنة القوة الطاردة المركزية.

فالقمر الصناعي إنما يستقر في مداره الثابت حول الأرض نتيجة تفاعل هـاتين السنتين، فيما بينهما، فالجاذبية الأرضية تشد القمر الصناعي نحو مركز الأرض بقوة معينة، بينما تدفعه القوة الطاردة بعيدا عن مركز الأرض بقوة مساوية للأولى بالمقدار، ومعاكسة لها بالاتجاه، فتكون المحصلة استقرار القمر في مدار ثابت حول الأرض.

وعلى هـذه الصورة من الفهم يجب أن يكون تعاملنا مع السنن، التي فطر الله عليها أمور الخلق، فليس لنا أن نفكر في تعديل صفاتها، أو تبديلها، وإنما علينا أن نعرف صفاتها، وأن نتصرف بها وفق هـذه الصفات الثابتة، التي قدرها الله عز وجل كما شاء.

التالي السابق


الخدمات العلمية