الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
1- النظرة الغائية:

ونعني بها نظرتنا إلى ظواهر الحياة من جهة الغاية أو الحكمة، التي من أجلها تحدث هـذه الظواهر.. فنحن مثلا نعتقد أن البراكين والزلازل تضرب القرى والمدن، وتهلك الناس عقوبة من الله عز وجل على ما ارتكبوا من آثام وجرائم، وكذلك نعتقد بالمرض وبسائر الكوارث الطبيعية.. ومع تسليمنا بأن لهذا الاعتقاد ما يبرره انطلاقا من إيماننا بأن لله حكمة في كل ما يجري في هـذا الكون والتي قد ندركها وقد لا ندركها.. إلا أن اعتقادنا بالحكمة الإلهية على هـذه الصورة يجب ألا يحول بيننا وبين النظر إلى المسألة من جانب آخر، وهو معرفة الأسباب التي تؤدي عادة لحدوث هـذه الظواهر؛ لأن معرفة الأسباب تفيدنا في التحكم بالظواهر الكونية المختلفة، وتجعلنا أكثر قدرة على تسخيرها لصالحنا، ودرء أخطارها عنا بإذن الله. أضف إلى ذلك أن النظر إلى الأحداث من جهة الحكمة في وقوعها فحسب، يضعنا في موقع السلبية المطلقة التي تكتفي بتأمل الأحداث من الخارج، بدل المشاركة فيها مشاركة إيجابية فعالة.. علما بأن مثل هـذه المواقف السلبية كثيرة في حياتنا العملية.

هـكذا تحطم شالنجر:

وأذكر أنني في كانون الثاني ( يناير ) من عام 1986م كنت في الولايات المتحدة الأمريكية ، عندما دعاني صديق يتابع هـناك دراسته الجامعية العليا [ ص: 88 ] لنشاهد على الطبيعة عملية إطلاق المكوك الفضائي ( شالنجر ) الذي كان من المقرر أن يحمل سبعة رواد للدوران حول الأرض، وفي الموعد المحدد كنا في قاعدة الإطلاق مع جموع المشاهدين، نترقب لحظة انطلاق الصاروخ نحو الفضاء.. وقد لفت انتباهي أن صديقي لم يكف طوال فترة ترقبنا لانطلاق الصاروح عن إبداء دهشته وإعجابه بما وصلت إليه (تكنولوجيا) الغرب من تقدم وتطور مذهلين، وأعاد على مسامعي أكثر من مرة قوله: ( إننا - نحن المسلمين - لن نستطيع مسايرة التقدم العلمي المعاصر، ولن نستطيع مواكبة ركب الحضارة، ما لم نأخذ بمنهج هـؤلاء، ونتابع خطواتهم في شتى مجالات الحياة ) ، لكن موقف صاحب المليء بالإعجاب والدهشة، لم يلبث أن تبدل باتجاه معاكس تماما عندما انفجر الصاروخ، بعد ثوان من إطلاقه.. فقد عد صاحبي انفجار الصاروخ بمثابة ضربة إلهية قاصمة موجهة لغطرسة أمريكا ( على حد تعبيره ) التي لا تفتأ تعتدي على الشعوب المستضعفة، كما رأى في تلك الكارثة عقوبة عاجلة على ما وصل إليه المجتمع الأمريكي من استهتار وانحلال أخلاقي، وإباحية وفوضى في كل شيء..

لقد كان واضحا من هـذا التبدل المفاجيء في موقف صاحبي أنه لم يكن يصدر في تقويمه للحادث عن نظرة موضوعية بمقدار ما كان يصدر عن نظرة غائية قاصرة تستهدف ( التبرير ) أكثر مما تستهدف معرفة الأسباب الموضوعية، التي أدت إلى الانفجار، والتي يمكن بمعرفتها منع تكرار الكارثة مرة أخرى

ومن المؤكد لو أن العلماء والمسئولين في وكالة الفضاء الأمريكية ( ناسا ) نظروا للحدث كما نظر إليه صاحبي لأوقفوا تماما برامجهم الفضائية، بانتظار أن تتراجع الولايات المتحدة عن غطرستها، وانتظار أن يصلح حال المجتمع الأمريكي، ( ترى كم من السنوات أو القرون سيستغرق ذلك ؟ ) . [ ص: 89 ] لكن شيئا من ذلك لم يحدث، بل سرعان ما عكف العلماء والمسئولين في وكالة الفضاء على دراسة وتحديد الظروف والأسباب التي أدت إلى وقوع الكارثة.. وما هـي إلا شهور قليلة حتى قامت الوكالة من كبوتها، ودبت الحياة من جديد في قاعدة ( كيب كينيدي ) وانطلق المكوك التالي إلى الفضاء وفق البرنامج المقرر

إن النظر إلى الأحداث على هـذه الشاكلة لا يعني إغفال جانب الحكمة فيها، بل يعني فهما جديدا للحكمة، يقوم على معرفة الأسباب الكامنة وراء الأحداث، أو معرفة السنن التي تحكم الأحداث.. لأننا بهذه المعرفة نصبح أقدر على توجيه الأحداث، بما يتوافق وأمانة الاستخلاف، التي نيطت بنا.

التالي السابق


الخدمات العلمية