الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ثانيا : إجراء تطبيقات على خمس من القواعد السابقة

1- قاعدة ( قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون )

وردت هـذه القاعدة الدعوية القرآنية في قصة أصحاب السبت من اليهود في سورة الأعراف، حيث احتالوا على الحكم الشرعي في منعهم من الصيد يوم السبت، فقامت طائفة منهم بوعظهم وإنكار منكرهم، فقالت لهم طائفة : ( وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا ) ( الأعراف:164) ،

فأجاب الواعظون: ( قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون ) (الأعراف 164) ، معللين وعظهم لهم بعلتين: الأولى : الإعذار إلى الله عز وجل بالقيام بواجب التذكير والنصيحة، والثانية: رجاء اتعاظهم، واتقائهم الله سبحانه وتعالى [1] [ ص: 107 ]

فكانت قاعدة عامة للدعاة تؤكد أن الغرض من الدعوة إلى الله تعالى، والنصيحة للآخرين في حال رؤيتهم على منكر أمران :

أ- القيام بواجب الأمر والنهي، والتناصح، إعذارا إلى الله عز وجل .

ب- أداء حق المدعويين على الدعاة، وهو حق التذكير رجاء الاتعاظ والتذكر.

فليس من الحكمة الفصل ما بين هـذه مقصدين على وجه إذا ضعف احتمال أحدهما عند الداعي، أهمل المقصد الآخر، بل على الداعي أن يقوم بواجبه في التذكير رجاء الاستجابة، وإبراء لذمته، والنتيجة الله عز وجل [2]

2- قاعدة : ( وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهـم شيئا )

هذه القاعدة الدعوية القرآنية وردت في سورة آل عمران، حيث ينهى الله عز وجل المؤمنين عن موالاة الكافرين، واتخاذهم بطانة من دون المؤمنين،

فقال تعالى : ( إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط ) (آل عمران:120) .

فبينت هـذه القاعدة للدعاة عامة أن النجاة من كيد الأعداء منوطة [ ص: 108 ] بتحقيق شرطين أساسين هـما : الصبر والتقوى، وقد تكرر هـذا المعنى في آيات عديدة [3]

. ولكن كثيرا ما يغفل الدعاة عن هـذه القاعدة، أو يقصروا في تحقيق هـذين الشرطين، فيبتليهم الله بالكيد والأذى من أعدائهم، وينفذ كيدهم فيهم.

وليس الصبر والتقوى المشروطان في هـذه الآية عبارة عن كلمات تقال، أو أحول تدعى، وإنما هـي من عزائم الأمور التي تتطلب جهادا ومجاهدة في تحقيقهما، والتي تعرف بآثارها ومظاهرها في حياة المؤمن.

ولعل من أبرز مظاهر التقوى المطلوبة :

1- الإخلاص لله عز وجل في النية والقول والعمل.

2- التزام طاعته سبحانه، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ، باجتناب النواهي والعمل بالأوامر.

3- التواصي بين المؤمنين بالحق، وتبادل النصيحة والشورى فيما بينهم، والتآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر.

4- إتقان العمل الصالح والاستمرار عليه، وتوخي الحكمة فيه.

5- تحقيق وحدة الصف بين العاملين، ونبذ التفرق والشقاق، ولا سيما عند مواجهة الأعداء.

6- اللجوء إلى الله سبحانه وحده، والإكثار من ذكره، والتضرع [ ص: 109 ] إليه في السراء والضراء.

كما أن من أبرز مظاهر الصبر المطلوب :

1- الاستمرار في الجهاد والعمل الحكيم، والثبات على التقوى والعمل الصالح.

2- البذل والتضحية في سبيل الله، والجهاد بالنفس والمال والوقف..

3- التعقل في العمل، وعدم التعجل في النتائج، وضبط النفس.

4- عدم الركون إلى الأعداء وتوليهم، وإعلان البراءة منهم، وتجنب الخضوع والتنازل عن أمور الدين من أجلهم.

5- التصديق بوعد الله عز وجل ، والجزم بأن العاقبة للمتقين.

6- تفويض الأمر لله سبحانه وتعالى ، وصدق التوكل عليه [4]

وما أحوج المسلمين اليوم إلى تفهم هـذه القاعدة الدعوية، والاستنارة بها في دعوتهم، ومعالجة عقباتهم ومشكلاتهم !!

3- قاعدة : ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي )

هذه القاعدة الدعوية قاعدة قرآنية تبين أنه لا مجال للإكراه أبدا في سبيل اعتناق العقيدة، ما دام كل من الرشد والغي أصبح واضحا بما أوضحه الله ورسوله من جهة، وما دام الله قد أعطى كل إنسان العقل الذي يميز به بين الرشد والغي، والهدى من الضلالة من [ ص: 110 ] جهة أخرى، قال تعالى: ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ) (البقرة:256) .

وقد اختلف المفسرون في تفسير هـذه الآية كثيرا نظرا لظاهر معارضتها مع بعض آيات الجهاد من جهة، ولما ثبت من قتال الرسول الله صلى الله عليه وسلم لمشركي العرب، وأنه لم يرض منهم إلا الإسلام، فقال بعضهم بنسخها،وقال آخرون إنها خاصة بأهل الكتاب من دون المشركين، وما إلى ذلك من أقوال [5]

ولكن الذي يجمع بينها وبين النصوص الأخرى هـو حمل لفظ (الدين ) في هـذه الآية على الاعتقاد والملة، فهذا مما لا يكره عليه أحد ابتداء، وحمل لفظ الدين في آيات أخرى على الخضوع العام لنظام الإسلام العام، وإن بقي المرء على عقيدة أخرى.

كما جرى إقرار أهل الذمة على البقاء على عقائدهم وأديانهم، ما داموا قد خضعوا بعقد الذمة لنظام الإسلام العام، ودفعوا الجزية رمزا لهذا الخضوع،

وذلك مثل قوله تعالى: ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله ) (البقرة:193) ،

وقوله تعالى : ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ) (الأنفال:39) ،

وقوله: ( هـو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على [ ص: 111 ] الدين كله ولو كره المشركون ) (التوبة:33) .

وهذا التوازن بين ضرورة الخضوع لنظام الإسلام العام، والمسالمة له من غير المسلمين من جهة، وبين عدم إكراه أحد على اعتناق الدين الحق من جهة أخرى، يعد مزية من مزايا النظام الإسلامي، ومحسنا عظيما من محاسنه، حيث يحقق للجميع حرية الاعتقاد من جهة، كما يحقق للدين الحق علوه وخضوع الآخرين لنظامه من جهة أخرى. وهذا ما يمكن أن نطلق عليه اليوم باصطلاح العصر: ( الشرعية الدولية الربانية ) التي يجب أن تهيمن على الجميع، مع السماح ببقاء الناس على شرائعهم الخاصة بهم، ولا ضير في مثل هـذه الهيمنة العامة للشرعية الدولية الربانية، لأنها هـيمنة شريعة الخالق على المخلوقين، وشريعة المعبود الواحد على العباد، خلافا لما يجري اليوم من هـيمنة شريعة قوم معينين على غيرهم من الأقوام باسم الشرعية الدولية البشرية.

4- قاعدة : (نحن دعاة لا قضاة ) .

هذه القاعدة مقولة لأحد كبار رجال الدعوة في العصر الحاضر [6]

، جعلها صاحباها عنوانا لكتاب له، كان له أثر طيب في تصحيح بعض [ ص: 112 ] المفاهيم المعاصرة التي طرأت على بعض أبناء الحركة الإسلامية، وأفرزت اتجاهات دعوية متظرفة وجماعات عرفت بجماعات (التكفير والهجرة ) . فإن هـذه القاعدة تؤكد على أن الداعي ليس قاضيا على الناس يحاكمهم ويحكم عليهم، وإنما هـو هـاد ومرشد، ومبشر ومنذر.

فليست وظيفته أن يصنف الناس إلى مسلم وكافر، أو فاسق أو مبتدع، بقدر ما تكون وظيفته دعوة الكافر إلى الإيمان، والفاسق إلى الطاعة، والمبتدع إلى الاتباع.

أما الحكم على الناس بكفر أو ردة أو فسق أو ابتداع، فهو متروك إلى المتخصصين من العلماء والمفتين والقضاة، الذين ينظرون إلى المسألة من جميع جوانبها، ويلمون بجميع متطلباتها، ثم يصدرون الأحكام فيها. وأمثال هـؤلاء مجتهدون في أحكامهم، لهم أجران عليها إذا أصابوا، وأجر واحد إذا أخطأوا، ولا يأثمون في أحكامهم الخاطئة، إلا إذا قصروا فيها، ولم يستفرغوا وسعهم في تحقيق متطلباتها.

أما غيرهم من الناس مهما كانت ألقابهم ومستوياتهم، فليس من شأنهم إصدار الأحكام على الناس، وإذا فعلوا ذلك عرضوا أنفسهم إلى الخطر، وباءوا بالإثم على كل حال.

ولكم اتخذ بعض شباب الدعوى الإسلامية اليوم مثل هـذا الموقف، وتجرءوا فيه على إصدار الأحكام على المسلمين، عامتهم وخاصتهم، [ ص: 113 ] حاكمهم ومحكومهم، مما جرهم إلى مواقف خاطئة، وتصرفات شاذة هـنا وهناك، عانت منها الدعوة الإسلامية المعاصرة وقاست من ورائها الأمرين !!

وهذا يؤكد لنا أهمية هـذه القاعدة، وضرورة تعليمها والتذكير بها، حتى لا يقع في الخطأ فيها شباب الدعوة كما وقع بعضهم.

وقد ظهرت كتب عديدة مفيدة في معالجة هـذا الخطأ، تؤكد صحة هـذه القاعدة، وتناقش الشبهات التي تثار في أذهان الناس حولها [7]

5- قاعدة : ( نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه )

هذه القاعدة الدعوية تنسب للشيخ : محمد رشيد رضا - رحمه الله - وتبناها وأكد عليها الأستاذ حسن البنا - رحمه الله - وتقبلها جمهور الدعاة قبولا حسنا [8]

، وتحفظ عليها بعضهم بسبب إطلاق الإعذار للمخالف الذي قد يوهمه لفظها، ومن هـنا رأيت ضرورة [ ص: 114 ] تقييدها صراحة بقولنا : (..ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه فيما يجوز فيه الاختلاف ) [9]

، على الرغم من كونه قيدا ملحوظا فيها، وذلك بسبب ما يجري لها من فهم خاطئ من جهة، وما يترتب على تطبيقاتها من أخطاء عملية عند بعض الدعاة من جهة أخرى، كما سنشير إليه إن شاء الله في آخر البحث عند الحديث عن التطبيقات الخاطئة للقواعد الشرعية.

وهذه القاعدة الدعوية تؤكد أمرين أساسين هـما :

1- ضرورة التعاون في المتفق عليه.

2- ضرورة الإعذار للمخالف في المسألة الاجتهادية.

وإلا فما يمنع المتفقين على أمر ما من التعاون على تحقيقه، اللهم إلا الأنانيات القاتلة، والعصبيات البغيضة! وما يمنع المخالف من إعذار غيره في خلافه في مسألة اجتهادية، ما دامت محل اجتهاد ورأي من جهة، وما دام الإعذار موقفا متبادلا بين المختلفين من جهة أخرى!!

وإلا كيف يطلب إنسان من مخالف له أن يعذره في اجتهاده ومخالفته، في الوقت الذي لا يعذر هـو صاحبه في خلاف له!!

ومما ينبغي التنبيه إليه هـنا: أن إعذار المخالف في مخالفته لا يستلزم التسليم بقوله أولا، كما لا يستلزم السكوت عن خطأ في نظره ثانيا. [ ص: 115 ]

وإنما يستلزم الاحترام، وعدم الإنكار عليه، ولا يمنعه إعذاره من مناقشة رأي المخالف وبيان خطئه فيه، ومن دعوة المخالف إلى الخروج عن الخلاف أيضا.

فكما أن من القواعد الشرعية ( لا ينكر المختلف فيه ) [10]

، فإن من القواعد الشرعية أيضا ( الخروج من الخلاف محبوب ) [11]

. وما أحوج الدعاة اليوم إلى تفهم هـذه القاعدة تفهما صحيحا، وإلى تربية أجيالهم عليها، وعلى إحسان تطبيقها !!

إلى غير ذلك من قواعد شرعية دعوية كثيرة، تعرف في مواطنها من الكتب الشرعية عامة، والكتب الدعوية خاصة. [ ص: 116 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية