الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

القواعد الشرعية ودورها في ترشيد العمل الإسلامي

الدكتور / محمد أبو الفتح البيانوني

ب- بيان أبرز خصائص القواعد الشرعية

لم أر لأحد الكاتبين في القواعد الفقهية والأصولية حديثا خاصا عن خصائص تلك القواعد، وسماتها الأساسية، وإنما يستطيع الباحث عن تلك الخصائص أن يقف عليها في ثنايا كلام العلماء عنها، وعن أهميتها وفائدة دراستها، كما يستطيع استنباط بعض هـذه الخصائص من التفكر فيها وفي طبيعتها، ولعل أبرز ما توصلت إليه من خصائصها ما يلي : [ ص: 51 ]

1- ضبطها للفروع

وهذه الخصيصة واضحة من طبيعة القواعد وتعريفها، حيث إنها قضايا وأحكام كلية، تتناول فروعا متنوعة يصعب ضبطها، والتعرف عليها، بدون هـذه القواعد الكلية.

وفي بيان أهمية هـذه الخصيصة يقول الإمام القرافي في الفروق: (..ومن جعل يخرج الفروع بالمناسبات الجزئية، دون القواعد الكلية، تناقضت عليه الفروع واختلفت، وتزلزلت خواطره فيها واضطربت، وضاقت نفسه لذلك وقنطت، واحتاج إلى حفظ الجزئيات التي لا تتناهى، وانتهى العمر ولم تقض نفسه من طلب مناها.. ومن ضبط الفقه بقواعده استغنى عن حفظ أكثر الجزئيات، لاندراجها في الكليات، واتحد عنده ما تناقض عند غيره وتناسب، وأجاب الشاسع البعيد وتقارب.. ) [1]

ويقول في ذلك الإمام الزركشي في مقدمة كتابه ( المنثور في القواعد ) : (..أما بعد: فإن ضبط الأمور المنتشرة المتعددة، في القوانين المتحدة، هـو أوعى لحفظها، وأدعى لضبطها، وهي إحدى حكم العدد التي وضع لأجلها، والحكيم إذا أراد التعليم، لا بد له أن يجمع بين بيانين: إجمالي تتشوف إليه النفس، وتفصيلي تسكن إليه.. ) [2] [ ص: 52 ]

2- كشفها عن المدارك الشرعية، والحكم التشريعية

فإن المرء من خلال تعرفه على القواعد الشرعية، وربطها بفروعها المتنوعة، تنكشف له كثير من المدارك الشرعية، والحكم التشريعية التي بنيت عليها الأحكام الإسلامية، ولا يخفى أثر الوقوف على المدارك، وتفهم الحكم، في المسلم عامة، وفي العالم خاصة.

وفي هـذا يقول الإمام السيوطي في ( الأشباه والنظائر ) في معرض حديثه عن أهمية الوقوف عليها، كلاما جميلا ينطبق على معرفة القواعد الفقهية أيضا على وجه العموم:

( اعلم أن فن الأشباه والنظائر فن عظيم، به يطلع على حقائق الفقه ومداركه، ومآخذه وأسراره، ويتمهر في فهمه واستحضاره، ويقتدر على الإلحاق والتخريج لمعرفة أحكام المسائل التي ليست بمسطورة، والحوادث والوقائع التي لا تنقضي على ممر الزمان.. ) [3]

ويقول أستاذنا الشيخ مصطفى الزرقا - رحمه الله - في (المدخل الفقهي العام ) : " ..فإن في هـذه القواعد تصويرا بارعا، وتنويرا رائعا للمبادئ والمقررات الفقهية العامة، وكشفا لآفاقها ومسالكها النظرية، وضبطا لفروع الأحكام العملية بضوابط، تتبين في كل زمرة من هـذه الفروع وحدة المناط، وجهة الارتباط رابطة تجمعها إن اختلفت موضوعاتها وأبوابها ) [4] [ ص: 53 ]

3- كثرتها وتنوعها

قد يتوهم البعض أن القواعد الشرعية محصورة في عدة قواعد قليلة العدد، نظرا لما شاع بين أهل العلم من قواعد فقهية وأصولية، إلا أن المتتبع لها يجدها كثيرة جدا يصعب جمعها وحصرها، وذلك لكثرتها وتنوعها من جهة - كما سبق معنا في بيان أنواعها - ونظرا لتوزعها على مختلف المصنفات والكتب والأبواب الفقهية في مختلف المدارس العلمية من جهة أخرى. فهناك القواعد العامة والخاصة، وهناك القواعد المتفق عليها والمختلف فيها، وهناك القواعد والضوابط..

وإن هـذه الكثرة - وإن كانت قليلة بالنسبة لكثرة الفروع والمسائل الفقهية - وهذا التنوع في القواعد الشرعية، يمد الفقه الإسلامي بالقوة والخصوبة، ويعبر عن مدى سعة شمول الشريعة الإسلامية واستيعابها للمسائل القديمة والمستجدة..

وفي هـذا يقول الإمام القرافي : (فإن القواعد ليست مستوعبة في أصول الفقه، بل للشريعة قواعد كثيرة جدا عند أئمة الفتوى والقضاء، لا توجد في كتب الفقه أيضا ) [5]

ومن هـنا يستطيع الدارس لأمهات الكتب الفقهية، ولا سيما [ ص: 54 ] لمتقدمي الفقهاء، أن يستخرج من هـذه الكتب الكثير الكثير من القواعد الكلية والضوابط الشرعية، التي قد تتفق أحيانا، وتختلف أحيانا أخرى من كتب مذهب فقهي معين إلى آخر..

وقد بدأت في هـذا دراسات جديدة مفيدة من قبل بعض الباحثين، كما فعل الدكتور علي أحمد الندوي في كتابه (القواعد والضوابط المستخلصة من التحرير للحصيري، شرح الجامع الكبير للإمام محمد بن الحسن الشيباني ) [6]

، والدكتور محمد الروكي في كتابه

( قواعد الفقه الإسلامي ) من خلال كتاب ( الإشراف على مسائل الخلاف ) للقاضي عبد الوهاب البغدادي المالكي [7]

. وكما فعل فبلهما الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي في جمع أصول وقواعد وضوابط كثيرة من كتب الإمام ابن تيمية - رحمه الله - طبعت في (ص1-292 ) ، المجلد الثاني من المجموعة الكاملة لمؤلفاته. إلى غير ذلك من بحوث علمية مشابهة لم تطبع بعد [8]

4- صلاحيتها للاستدلال بها أو الاستئناس

تفيد عبارات كثير من المتقدمين والمتأخرين الذين كتبوا في القواعد الفقهية، أنها عبارة عن ضوابط جامعة لا تصلح للاعتماد عليها في الاستنباط، ولا يستدل بها على الأحكام الشرعية. [ ص: 55 ]

يقول العلامة ابن نجيم : ( لا يجوز الفتوى بما تقتضيه الضوابط، لأنها ليست كلية بل أغلبية، خصوصا وهي لم تثبت عن الإمام، بل استخرجها المشايخ من كلامه) [9]

وجاء في مقدمة مجلة الأحكام العدلية : (..فحكام الشرع ما لم يقفوا على نقل صريح لا يحكمون بمجرد الاستناد إلى واحدة من هـذه القواعد، إلا أن لها فائدة كلية في ضبط المسائل..) [10]

وجاء في مكان آخر: (وتلك القواعد مسلمة معتبرة في الكتب الفقهية، تتخذ أدلة لإثبات المسائل وتفهمها في بادئ الأمر، فذكرها يوجب الاستئناس بالمسائل، ويكون وسيلة لتقررها في الأذهان ) [11]

ويقول أستاذنا الشيخ مصطفى الزرقا - رحمة الله - : (..ومن ثم لم تسوغ المجلة أن يقتصر القضاة على الاستناد إلى شيء من هـذه القواعد الكلية فقط، دون نص آخر خاص أو عام يشمل بعمومه الحادثة المقضي فيها، لأن تلك القواعد الكلية على ما لها من قيمة واعتبار، هـي كثيرة المستثنيات، فهي دساتير للتفقيه، لا نصوص للقضاء ) [12] ، إلى غير ذلك من أقوال تؤكد هـذه النتيجة.

إلا أن بعض الباحثين المحدثين ناقشوا هـذه النتيجة، ولم يسلموا بها [ ص: 56 ] على إطلاقها، نظرا لاختلاف القواعد من حيث أصولها من جهة، ومن حيث وجود الدليل على حكم المسألة المبحوث عنها، أو عدم وجوده من جهة أخرى، كما ذهب إلى هـذا الأستاذ الدكتور محمد صدقي البورنو ، فهو يقول: ( فمن حيث الأصول، فإن من القواعد الفقهية ما كان أصله من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو يكون مبنيا على أدلة واضحة من الكتاب والسنة المطهرة، فهذا النوع يصلح دليلا شرعيا نظرا إلى أصله أو دليله ) [13]

، وضرب لذلك أمثلة عديدة.. وسبق إلى هـذا الدكتور على الندوي [14]

ولكن لما كانت كثير من القواعد الشرعية في حقيقتها تعليلا لأحكام شرعية متنوعة، أو تأصيلا لها، وكان منها ما يغلب عليه الطابع الأصولي أو الطابع الفقهي.. كان من الطبيعي أن تصلح تلك القواعد الشرعية ولا سيما الأصولية منها للاستدلال والاستئناس.. فكثيرا ما يستدل العلماء لبعض المسائل الشرعية بقاعدة الاستحسان أو الاستصحاب، أو مفهوم المخالفة، وغيرها من القواعد الأصولية العامة التي أطلق عليها العلماء اسم الأدلة التبعية أو المختلف فيها.. كما يستدلون ببعض القواعد الأصولية الخاصة، مثل قولهم : الأمر للوجوب، والنهي للتحريم ، وهكذا..

ولا يصلح كونها ( أغلبية ترد عليها بعض المستثنيات ) حجة لعدم [ ص: 57 ] جواز الاستدلال بها، وذلك لأن المستثنيات ترد غالبا على القواعد الفقهية دون الأصولية من جهة، ولأن الاستثناء من القاعدة لا يضعف من حجيتها وقوتها، فالعبرة للغالب وليس للنادر، وإن الاستثناء عندما يرد على قاعدة، إنما يكون استنادا إلى قاعدة أخرى راجحة في مقام الاستثناء خاصة، وليس خروجا عن أصل القاعدة ودليلها.

ومن هـنا أري أن يلخص موضوع صلاحيتها للاستدلال والاستثناء بما يلي :

إن كثيرا من القواعد الشرعية يصلح للاستدلال به على أحكام شرعية مستجدة، أو الاستئناس به في مسألة من المسائل، ذلك:

لأن أصل بعض هـذه القواعد نص صريح من القرآن أو السنة، فيكون الاستدلال بها استدلالا بالكتاب والسنة بطريق غير مباشر، وذلك مثل قاعدة : الأمور بمقاصدها ، والضرر يزال ، والمشقة تجلب التيسير ، والضرورات تبيح المحظورات ، وهكذا.

ولأن بعضها مستنبط من مجموع نصوص شرعية وأدلة نقلية وعقلية، فيكون حال المستدل بها في مسألة من المسائل حال من يحيل السائل أو المستفتي على أدلة القاعدة نفسها، فهو من باب الاستدلال غير المباشر بالأدلة الشرعية الأخرى أيضا، وذلك مثل قاعدة: العادة محكمة وغيرها.

أما إذا كانت المسألة المستدل عليها اجتهادية بحتة لا تعتمد على نص شرعي، كاعتمادها على دليل عقلي مجرد، ورأى العالم [ ص: 58 ] دخولها تحت قاعدة من تلك القواعد المقررة، فيمكن عندئذ الاستدلال عليها بالقاعدة، ويكون دليل المسألة عندئذ هـو دليل القاعدة نفسها، ويكون حال المستدل بها حال من يقول: يقاس حكم هـذه المسألة على حكم تلك المسائل الاجتهادية الأخرى التي تدخل في القاعدة، مع ضرورة ملاحظة المسائل المستثناة من القاعدة المستدل بها.

ويمكن حمل كلام من منع من الاستدلال بالقواعد الفقهية مطلقا على معنى خاص هـو: أن القاعدة الفقهية لا تصلح دليلا على نسبة حكم الحادثة المعينة الجديدة إلى مذهب معين على سبيل القضاء أو الفتوى به، ولا يتعارض هـذا المعنى مع إمكانية صلاحية بعض القواعد الفقهية للاستدلال الشرعي المطلق بها على حكم من الأحكام.

وإلى مثل هـذا المعنى يشير قول الدكتور علي الندوي : ( وينبغي أن يبين هـنا: أن عدم جواز استناد القاضي أو المفتي إلى إحدى القواعد الفقهية وحدها، إنما محله فيما يوجد فيها نص فقهي يمكن الاستناد إليه، فأما إذا كانت الحادثة لا يوجد فيها نص فقهي أصلا لعدم تعرض الفقهاء لها، ووجدت القاعدة التي تشملها فيمكن عندئذ استناد الفتوى والقضاء إليها، اللهم إلا إذا قطع أو ظن فرق بين ما اشتملت عليه القاعدة، وهذه المسألة الجديدة ) [15]

كما يمكن أن يفهم مثل هـذا من كلام ابن نجيم الذي سبقت الإشارة إليه، والله أعلم. [ ص: 59 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية