الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
الموقف الثاني

موقف تخصيص بعض الأحكام الشرعية العامة، من دون دليل، وتعميم بعض الأحكام والمبادئ الخاصة، وعلاقته بقاعدة (تخصيص العام ) ، وكقاعدة ( العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ) .

يعمد بعض الدعاة إلى تخصيص أحكام عامة دون دليل مقبول على التخصيص، كما يعمد بعضهم إلى تعميم نصوص خاصة دون دليل مقبول على التعميم، وقد يستدلون على أقوالهم وأفعالهم ببعض القواعد الأصولية التي يضعونها في غير مواضعها، أو يفهمونها على غير وجهها، وذلك كقاعدة ( تخصيص العام ) وأنه ( ما من عام إلا وقد خص ) [1]

، وكقاعدة ( العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ) [2] .. وهكذا.

فتراهم مثلا يعممون ويطلقون قول الحق سبحانه وتعالى : ( لا إكراه في الدين ) (البقرة:256) [3] [ ص: 155 ]

، على جميع الأحوال، غير قاصرين له على جانب (الاعتقاد ) ، ومعممين له على جانب الخضوع العام لنظام الإسلام، ويقررون بذلك حرية الناس في بقائهم على أديانهم الباطلة، وعدم خضوعهم للدين الحق، دين الإسلام، خضوعا عاما.. غافلين في ذلك عن مدلولات النصوص الشرعية الأخرى، والقواعد العامة التي تلزم الناس بالخضوع لنظام الإسلام العام، ودفع الجزية، إذا ما أصروا على بقائهم على اعتقاداتهم.

مثل قول الله تعالى : ( هـو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ) (الصف:9) .

وقوله : ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين ) (البقرة:193) .

ومتجاهلين أو مئولين سيرته صلى الله عليه وسلم في جهاده مع الكافرين، وسيرة خلفائه الراشدين، مائلين بزعمهم إلى دفع شبهة ( العنف ) عن دين الإسلام التي أثارها أعداء الإسلام حول الإسلام قديما وحديثا، ظانين أن مثل هـذا الاتجاه الفكري، سيصحح نظرة الآخرين إلى الإسلام، ويحببهم فيه !

ولو تنبه هـؤلاء إلى أنهم بهذا التوجه يعطلون خصيصة من خصائص هـذا الدين الحق الذي ارتضاه الله لعباده، حيث أعلن أنه لن [ ص: 156 ] يقبل منهم دينا سواه، ويبطلون بذلك كثيرا من أحكامه ومعالمه التي بينتها السنة النبوية، وصرح بها تاريخ العهد النبوي والخلافة الراشدة، لم أطلقوا مثل هـذا الإطلاقات.

وأي غضاضة على الناس في أن يخضع جميعهم للنظام العام الذي ارتضاه الله لعباده، إذا لم يرتضوا أن يخضعوا له في اعتقادهم، وبقوا متمسكين بمعتقداتهم!! ما دامت حقوقهم في الاعتقاد وممارستهم لشعائرهم وعبادتهم محفوظة لهم !!

وسوف لا يكلفهم ذلك إلا أن يدفعوا (الجزية ) التي تعد رمزا لهذا الخضوع للنظام العام ومسالمته، وتعفيهم من بعض ما يكلف به المسلمون من ورائهم..

مع ملاحظة أن هـذا الموقف مرهون بحال قوة المسلمين، وتمكنهم، وإمكان استيعابهم للناس من حولهم.

وإذا كان الناس يتقبلون تلقائيا، طوعا أو كرها، الخضوع اليوم لما يسمى بالشرعية الدولية، والنظام العالمي الجديد، فلم يصعب تصور تقبلهم في أذهان بعض المسلمين، للخضوع الكريم للشرعية الدولية الربانية، والنظام الرباني العادل الذي ارتضاه لهم ربهم، وحفظ به حقوقهم، شرع فيه ما يعدهم على اختلاف عقائدهم وأجناسهم؟!

إن هـذا الموقف في نظري يعبر عن عقدة ( النقص ) التي أصيب بها كثير من المسلمين اليوم، أو عن ردة الفعل تجاه هـجمات الأعداء [ ص: 157 ] وشبهاتهم المثارة حول الإسلام ونظامه، ولا ينطلق أبدا من نظرة صحيحة متوازنة، تعكس كمال الإسلام وشموله وتوازنهن وما إلى ذلك من خصائص فريدة، تجلت يوم طبق الإسلام تطبيقا سليما في العصر النبوي وعصر الخلافة الراشدة..

كما نرى بعض الدعاة أيضا يذهب إلى أبعد من ذلك، فيقرر أن العنف والشدة ودعوة الآخرين إلى الخضوع لهذا النظام الرباني بالمنهج الذي رسمه لذلك، من البدء بالدعوة أولا إلى الإسلام عقيدة ونظاما، أو إلى قبول دفع الجزية رمزا للخضوع لنظامه العام، إذا ما أبوا أن يخضعوا له عقيدة، ومن ثم قتالهم إن أبوا كلا من العرضين، ثالثا إنما هـو اعتداء وتجاوز لحقوق الناس، وانحراف عن مبادئ الإسلام، وعلامة على عدم الرشد الذي أصيبت به الأمة، مستدلا على ذلك بمثل قوله تعالى ( لا إكراه في الدين ) (البقرة:256) ، وتعميم ذلك على الإكراه في المعتقد وغيره، وبحديث الرسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كن كابن آدم ) [4] ، أو ( كن كخير ابني آدم ) [5] ، معمما هـذه القاعدة النبوية الواردة في مقام الفتنة على غيرها من الأوضاع والأحوال، وواضعا لها في موضع المبدأ الأساسي والقاعدة المستقرة. [ ص: 158 ]

ومستنكرا تجاهل المسلمين لهذه الأحاديث، وعدم استشهاد علماء المسلمين بها في شروحاتهم، وعدم كتاباتهم حولها كتبا خاصة، كما فعلوا مع غيرها من أحاديث وآيات، فيقول: [6]

لم هـجر المسلمون هـذا الحديث إلى درجة أن أحدا لم يستشهد به في كتاب قديم أو حديث إلا أن يكون من الكتب التي تحصي أقوال النبي صلى الله عليه وسلم ؟ أما أن يستشهد به كأمر، والأمر يقتضي الوجوب كما يقول علماء الأصول، فلا.. ثم ما مقدار جدوى قواعد علم أصول الفقه، وما جدوى قواعد علم مصطلح الحديث التي تثبت أن حديثا ما قد قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ وما هـي القواعد والأصول والأعمال والممارسات التي تمكننا من رفض ما قاله الله ورسوله، وتجاهل ما قالاه وأكداه، وما جدوى أن يكون القول موجودا في القرآن أو في كتب الحديث ؟ [7]

ونسي صاحبنا وهو الذي خرج هـذا الحديث في كتابه هـذا وأحاله على كتب السنن وأبواب الفتن، أن هـذا الحديث وأمثاله مذكور في أبواب الفتن في عدد من كتب السنة، ورواه عدد من الأئمة، واستشهدوا به عند أحاديثهم عن الفتن وأحكامهم وضوابطها، كما هـو مبين في شروح تلك الكتب وغيرها من الكتب المتخصصة في موضوع الفتنة. [ ص: 159 ]

وبقي لنا أن نتسائل : هـل من العلم الشرعي، والفقه السليم لأصول الفقه، أن ينزل الخاص منزلة العام، أو تتخذ الحالة الواردة في حال معينة، قاعدة في كل حال ؟ وهل يصح أن يستدل على مثل هـذا القول بالقاعدة القائلة ( إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ) ؟ ولا يخفى الفرق بين النص الوارد لسبب خاص، وبين النص الوارد في حكم حالة معينة!

وهل يعد الاستشهاد بهذا الحديث وذكره في باب الفتن تجاهلا له وتغافلا عنه وإهمالا له ؟ وهل كل ما يصلح قاعدة في حال الفتنة يصلح قاعدة عامة في غيرها من الأحوال ؟

أليس الأفضل والواجب أن نقول في مقام غير مقام الفتنة: ( كن كأبي بكر وعمر ) بدلا من قولنا : ( كن كابن آدم ) ، والرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( اقتدوا بالذين من بعدي : أبي بكر وعمر ) [8] ؟ أما عمل بهذه القاعدة عثمان أيام الفتنة في عهده، ولم يعمل به هـو ولا غيره في كل حال وزمان ؟

وانظر بعد هـذه التساؤلات إلى بعض أقوال الأستاذ العجيبة، إذ يقول : هـل نستطيع أن نفهم أن الإيمان الذي لا يشوبه الظلم، لا يمكن أن يكون إلا عن طريق مذهب ابن آدم الأول؟ إن المجتمع الذي لا يمر بمذهب ابن آدم، ليس غير راشد فحسب، بل إن إيمانه لا يمكن إلا أن [ ص: 160 ] يكون ملتبسا بالظلم.. ولهذا فإن المجتمع الذي لا يمر بابن آدم، يكون مبنيا على قانون لا مساواة فيه..

ينبغي أن نتذكر أننا إذا صنعنا قانونا ما، أي قانون كان، فإنه ينبغي أن يطبق على الجميع، علينا وعلى الآخرين، ولهذا قال عيسى عليه السلام : ( كل من أخذ بالسيف، بالسيف يهلك ) وهذا القانون صحيح ! [9]

وأخيرا أقول في التعليق على هـذا الموقف: هـل تؤخذ القاعدة الشرعية العامة من مجموع النصوص الشرعية، أم من نص واحد خاص كقصة ابني آدم وحدها ؟ وهل ما يريد أن يصل إليه المؤلف من رد العنف غير المنضبط بالضوابط الشرعية، كما يحدث كثيرا اليوم من وراء الأخذ بموقف ابن آدم وتعميمه، لا يستطيع أن يصل إليه من خلال النصوص الشرعية الأخرى ؟

أين التوازن في الجمع بين قوله تعالى : ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ) ( البقرة:256) ،

وبين قوله تعالى : ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير ) (الأنفال:39) ،

وقوله تعالى: ( هـو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ) (الصف: 9)

أين التوازن بين قوله تعالى : ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا [ ص: 161 ] عليه بمثل ما اعتدى عليكم ) (البقرة: 194) ،

وبين ترغيبه وندبه إلى العفو والمسامحة ؟

وهل من العلم والفقه أن يركز على مثل هـذا الحديث الخاص، وتتجاهل دلالة تلك النصوص الشرعية العامة الأخرى ؟

التالي السابق


الخدمات العلمية