الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ثانيا : إجراء تطبيقات على خمس من القواعد السابقة

1- قاعدة : ( والصلح خير ) .

وردت هـذه القاعدة في قول الله تعالى : ( والصلح خير ) (النساء: 128) ، فهي وإن وردت في سياق خوف النشوز والإعراض من الزوج عن الزوجة، فهي تفيد بإطلاق لفظها وعمومه تفضيل الصلح على غيره في كل أمر، فقد روى البخاري " عن عائشة رضي الله عنها ، في تفسير هـذه الآية، قالت : هـو الرجل يرى من امرأته ما لا يعجبه كبرا أو غيره فيريد فراقها فتقول : أمسكني واقسم لي ما شئت ! قالت : فلا بأس إذا تراضيا " [1]

يقول القرطبي : قوله تعالى : ( والصلح خير ) (النساء: 128) " لفظ عام مطلق يقتضي أن الصلح الحقيقي الذي تسكن إليه النفوس، ويزول به الخلاف، خير على الإطلاق، ويدخل في هـذا المعنى جميع ما يقع عليه الصلح بين الرجل وامرأته في مال أو وطء، أو غير ذلك.. " [2] [ ص: 89 ] فتكون هـذه القاعدة عامة في كل خلاف يقع بين الناس، ومن هـنا قيل: الصلح سيد الأحكام..

2- قاعدة : ( فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه ) .

وردت هـذه القاعدة في قول الله تعالى : ( إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم ) ( البقرة : 173 )

فقد قيدت هـذه القاعدة حالة الاضطرار إلى تناول الحرام المعفو عنها بعدم البغي والتعدي في هـذا التناول، فكانت أصلا ودليلا للقاعدتين المشهورتين: ( الضرورات تبيح المحظورات ) [3] ، ( والضرورة تقدر بقدرها ) [4]

فقررت أن الضرورة في علة الإباحة للمحظور، وأن هـذه الإباحة مقيدة بقدر الضرورة دون تعد أو تجاوز.

وليست هـذه القاعدة خاصة في تناول المحظورات من الأطعمة حالة الاضطرار، وإنما هـي عامة في كل ما يضطر المرء إلى استعماله وتناوله مما هـو محرم عليه، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

وقد عد العلماء هـذه الآية أصلا ودليلا من أدلة القاعدة الفقهية [ ص: 90 ] الكبرى: ( المشقة تجلب التيسير ) [5]

3- قاعدة ( البينة على المدعي واليمين على من أنكر ) .

أصل هـذه القاعدة جزء من حديث شريف رواه الإمام مسلم بلفظ : ( لو يعطى الناس بدعواهم لا دعي ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعي عليه ) [6]

. وجاء لفظها كاملا في رواية للبيهقي وغيره بإسناد حسن أو صحيح عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم، ولكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر ) [7]

يقول الإمام النووي : (وهذا الحديث قاعدة كبيرة من قواعد أحكام الشرع، ففيه أنه لا يقبل قول الإنسان فيما يدعيه بمجرد دعواه، بل يحتاج إلى بينة أو تصديق المدعي عليه، فإن طلب يمين المدعى عليه فله ذلك، وقد بين صلى الله عليه وسلم الحكمة في كونه لا يعطى بمجرد دعواه، لأنه لو كان أعطي بمجردها لادعى قوم دماء قوم وأموالهم، واستبيح، ولا يمكن المدعى عليه أن يصون ماله ودمه، وأما المدعي، فيمكنه صيانتهما بالبينة ) [8]

وتعد هـذه القاعدة أصلا عظيما في باب الخصومات والمرافعات، وهي محل اتفاق بين العلماء [ ص: 91 ]

4- قاعدة : ( الاضطرار لا يبطل حق الغير ) [9] هذه القاعدة تعتبر تابعة لقاعدة ( الضرورات تبيح المحظورات ) وقيدا لها فإذا كان الاضطرار بضوابطه وشروطه يبيح للمرء ارتكاب المحظور وتناوله، ولو كان هـذا المحظور ملكا لغيره، فإن هـذا الاضطرار لا يبطل حق الغير في ضمان ما أتلف من ماله دون إذنه، وإلا كان من إزالة الضرر بالضرر، والقاعدة الفقهية تقول: ( الضرر لا يزال بمثله ) [10]

ومن هـنا قرر العلماء أن من اضطر لأكل طعام غيره دون إذنه، فإن عليه بعد ذلك قيمة ما أكل أو مثله صيانة لحق الغير من الإبطال.

وفي هـذا يقول الشيخ أحمد الزرقا - رحمه اله - في شرحه للقواعد : الاضطرار لا يبطل حق الغير سواء كان الاضطرار :

1- بأمر سماوي، كالمجاعة والحيوان الصائل.

2- أو غير سماوي، كالإكراه الملجئ.

ففي الأول يجوز له أن يأكل من مال الغير بقدر ما يدفع به الهلاك عن نفسه جوعا، ويدفع الصائل بما أمكن ولو بالقتل، ويضمن في المحلين وإن كان مضطرا، فإن الاضطرار يظهر في حل الإقدام لا في رفع الضمان وإبطال حق الغير.. وفي الثاني إذا كان واردا على إتلاف مال الغير فإن المكره يضمنه [11]

وقد رتب الفقهاء على هـذه القاعدة فروعا كثيرة تعرف في محلها [ ص: 92 ] في كتب القواعد والفقه.

5- قاعدة ( الجواز الشرعي ينافي الضمان ) [12] تفيد هـذه القاعدة أنه إذا جاز إتلاف شيء في حالة من الأحوال، فإن هـذا الجواز يتنافى مع وجوب الضمان على المتلف، لأن التلف حصل بذلك الأمر الجائز.

وقد قيد العلماء هـذه القاعدة بشرطين :

1- أن لا يكون ذلك الشرط الجائز مقيدا شرط السلامة.

2- أن لا يكون عبارة عن إتلاف مال الغير لأجل نفسه.

وذلك لأن الضمان يستدعي سبق التعدي، والجواز الشرعي يأبى وجود التعدي [13] ، فلو حفر إنسان بئرا في ملكه الخاص به، أو في طريق العامة ولكن بإذن ولي الأمر، فوقع فيها إنسان أو حيوان، فلا يضمن حافر البئر شيئا. ولو وجد المسلم عند مسلم خمرا أو خنزيرا، فأتلفه له إنكارا للمنكر، فلا يضمن المتلف ما أتلفه، لأن إتلافه لمثل هـذا جائز له.. وهكذا..

وتندرج تحت هـذه القاعدة فروع فقهية كثيرة، خرجها العلماء عليها، كما أن لها مستثنيات يوقف عليها في كتب الفقه عامة وكتب القواعد خاصة [14] . إلى غير ذلك من قواعد تتعلق بجانب المعاملات. [ ص: 93 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية