الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ثانيا : إجراء تطبيقات على خمس من القواعد السابقة

1- قاعدة : ( ( وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه.. ) ) [1] يؤكد هـذا الحديث القدسي الشريف : أن أفضل ما يتقرب به إلى الله عز وجل هـو العمل بما افترضه على عباده.

إذ ليس من العقل والحكمة أن يتقرب العبد إلى خالقه بما أباحه له، أو ندبه إلى فعله، في الوقت الذي يهمل فيه الواجب الذي فرضه الله عليه وألزمه به! فلا تتحقق طاعة العبد لله عز وجل إلا بتنفيذ الأوامر واجتناب الواهي التي تعد الفيصل الأساس بين العبد المطيع والعبد العاصي. وما شرعت النوافل بعد ذلك إلا تكميلا لمعنى الطاعة، ومبالغة في معنى التقرب من الله والتحبب إليه سبحانه.

ومن العجب أن ترى أناسا يحرصون على كثير من النوافل في بعض العبادات، في الوقت الذي يهملون فيه فروضا أخرى !!

فقد يتوسع المرء الجاهل في عبادة مندوبة تنسجم مع طبيعته وتوافق هـواه، أو تسهل عليه، ويقصر في عبادة واجبة تشق عليه، أو لا تستريح إليها نفسه، مما يقدح في حقيقة عبوديته، وصدق طاعته لربه !!

فتأتي هـذه القاعدة الشرعية لتوضح المنهج، وترتب الأولويات في طريق التقرب إلى الله عز وجل ، فالأولوية المطلقة في هـذا لأداء الفروض [ ص: 79 ] الشرعية، وتأتي النوافل والمندوبات في الدرجة الثانية تابعة ومكملة، كما تصرح بذلك القاعدة الثانية الواردة في الحديث نفسه: ( وما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه... ) الحديث

ومما يؤكد دلالة هـذه القاعدة ما رواه أبو هـريرة رضي الله عنه : ( قال رجل يا رسول الله: إن فلانة تذكر من كثرة صلاتها وصدقتها وصيامها، غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها، قال : هـي في النار، قال : يا رسول الله إن فلانة تذكر من قلة صيامها وصلاتها، وإنها تصدق بالأثوار من الأقط، ولا تؤذي بلسانها جيرانها، قال : هـي في الجنة ) [2]

فلم تنقذ المرأة من النار كثرة صلاتها وصيامها وصدقتها، في الوقت الذي قصرت فيه بحق جيرانها وكف الأذى عنهم، وما كان الله ليحب من يقصر في واجب، ويكثر من نفل.. وما أكثر ما تختل هـذه الموازنة عند كثير من المسلمين اليوم !!

2- قاعدة : ( إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته ) [3] فإن من رحمة الله بعباده أن جعل أحكامه التكليفية كثيرا ما تدور بين الرخصة والعزيمة، مراعاة لطباعهم، وتخفيفا عنهم، ودفعا للحرج.

وإن من شكر الله عز وجل على هـذه النعمة أن يتعامل العبد مع رخص الله، كما يتعامل مع عزائمه، ومن هـنا ورد عن بعض السلف [ ص: 80 ] التشديد على من رغب عن الرخصة ولم يقبلها، فقد روي " عن ابن عمر رضي الله عنه ، قوله : ( من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة " [4]

وعلى هـذا المعنى يحمل قوله صلى الله عليه وسلم الذي أوردته كقاعدة سابقا : ( ( ليس من البر الصوم في السفر ) ) [5]

، حيث جاء في سبب وروده : ( سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونحن في حر شديد، فإذا برجل من القوم قد دخل تحت شجرة، وهو مضطجع كضجعة الوجع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما لصاحبكم أي وجع به ؟، فقالوا : ليس به وجع، ولكنه صائم، وقد اشتد عليه الحر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ : ليس من البر الصوم في السفر، عليكم برخصة الله الذي رخص لكم ) [6]

وذكر الحافظ ابن حجر: أن الشافعي رحمه الله حمل نفي البر المذكور في الحديث على من أبى قبول الرخصة [7]

والفرق واضح بين من أبى قبول الرخصة، ورفض العمل بها متمسكا بالعزيمة وحدها، وعدم وقوعه في الحرج بسببها، مع اعترافه بحكم الرخصة، وعدم إنكاره على الأخذ بها.. وعلى هـذا ينزل اختلاف [ ص: 81 ] العلماء في تفضيل الصيام أو الفطر للمسافر [8]

كما أن الفرق واضح أيضا بين العمل بالرخصة عند الحاجة إليها، وبين تتبع الرخص الذي نهي عنه، حتى قال بعض السلف فيه : (من تتبع الرخص فقد تزندق ) ، وقولهم :

( لو أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله ) [9]

، فإن العمل الأول يكون بدافع التوسع بالمباح عند الحاجة، ودفع الحرج القائم، أما تتبع الرخص فإنما يقوم على التهرب من الأحكام الشرعية والتخلص منها، طلبا للراحة، واتباعا للهوى..

3- قاعدة: ( جماع الدين أصلان : أن لا نعبد إلا الله، ولا نعبده إلا بما شرع، لا نعبده بالبدع ) [10] تؤكد هـذه القاعدة أن العبادة لا تكون إلا لله، ولا تكون إلا بما شرع الله لعبادته، فلا تكون فيما يبتدعه الناس من عبادات، ولا بما لم يأذن الله به،

قال تعالى: ( أمر ألا تعبدوا إلا إياه ) (يوسف:40) ،

وقال سبحانه : ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب ) (الشورى:13) ،

وقال أيضا : ( أم لهم شركاء [ ص: 82 ] شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم وإن الظالمين لهم عذاب أليم ) (الشورى:21) .

وترجع هـذه القاعدة العبادية الكبرى إلى الخصيصة التوقيفية التي تتميز بها العبادات عن غيرها من الأحكام، فلا اجتهاد في شرع عبادة من العبادات، لأن حق التشريع مقصور على الله وحده، فهو المتعبد الذي خلق العباد لعبادته، وهو أعلم بما يتعبدهم به، وأخبر بما يصلح لهم منها، وما يرضيه من عبادات :

( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ) (الملك: 14) ..

ولو ترك الناس وشأنهم في اختيار أنواع العبادات، لخبطوا فيها خبط عشواء.. وما أكثر ما ورد عن السلف الصالح من الأمر بالاتباع، وذم الابتداع [11]

وأصل ذلك كله قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وإن كل بدعة ضلالة ) [12]

ومن القواعد الفرعية المندرجة تحت هـذه القاعدة، ما ذكره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي ، وهو : (أن الأصل في العبادات الحظر، والأصل في العادات الإباحة ) [13]

، ثم قال : (واعلم أن البدع من العبادات على قسمين : إما أن يبتدع عبادة لم يشرع الله ورسوله جنسها أصلا، وإما يبتدعها على وجه يغير به ما شرعها الله ورسوله.. ) [14] [ ص: 83 ]

4- قاعدة : ( الأفضل في كل وقت وحال، إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال، والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه ) [15] وهذه قاعدة في بيان التفاضل بين العبادات، وهي مسألة اختلفت فيها أقوال العلماء ومسالكهم : فمنهم من سلك مسلك تفضيل الأشد والأشق على النفوس، ومنهم من سلك مسلك تفضيل الواجب على المندوب، ومنهم من سلك مسلك تفضيل الأنفع للآخرين، فقدم العبادات الجماعية على الفردية، وهكذا..

وهذا الاختلاف في التفضيل بين العبادات والأعمال يعود إلى العديد من النصوص الشرعية التي ورد في بعضها تفضيل عمل على آخر، أو التصريح بأن أحب الأعمال إلى الله كذا وكذا، وذلك مثل قوله صلى الله عليه وسلم ( الإيمان بضع وسبعون-أو بضع وستون - شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان ) [16]

ومثل حديث ابن مسعود رضي الله عنه ، قال : ( سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي العمل أحب إلى الله ؟ قال : الصلاة على وقتها، قال : ثم أي ؟ قال: [ ص: 84 ] ثم بر الوالدين، قال: ثم أي ؟ قال : الجهاد في سبيل الله ) [17]

، إلى غير ذلك من أحاديث ترتب فضائل بعض الأعمال والعبادات..

وجاءت قاعدة الإمام ابن القيم - رحمة الله - مرجحة بين تلك الأقوال، وجامعة بين تلك النصوص، فكان مما قال - رحمه الله - : ( فأفضل العبادات في وقت الجهاد: الجهاد، وإن آل إلى ترك الأوراد من صلاة الليل وصيام النهار، بل ومن ترك إتمام الفرض كما في حالة الأمن.. والأفضل في وقت حضور الضيف مثلا : القيام بحقه، والاشتغال به عن الورد المستحب، وكذلك في أداء حق الزوجة والأهل.

والأفضل في وقت السحر: الاشتغال بالصلاة والقرآن والدعاء والذكر والاستغفار.. والأفضل في وقت استرشاد الطالب وتعليم الجاهل :الإقبال على تعليمه والاشتغال به، والأفضل في أوقات الأذان: ترك ما هـو فيه من ورده والاشتغال بإجابة المؤذن ) [18] ، وهكذا [19]

5- قاعدة: ( الأحكام الأصولية والفروعية، لا تتم إلا بوجود الشروط وانتفاء الموانع ) [20] هذه قاعدة مطردة في العبادات وغيرها ن فإن الحكم الشرعي أيا كان نوعه لا يصح إلا بتحقق شروطه، وانتفاء موانعه. فالصلاة مثلا : لا تصح حتى توجد شروطها وأركانها وواجباتها، وتنتفي موانعها [ ص: 85 ] وهي مبطلاتها التي ترجع إلى الإخلال بشيء مما يلزم فيها، أو فعل منهي عنه فيها بخصوصها، وكذلك الصيام لا بد في صحته من وجود كل ما يلزم فيه، ومن انتقاء المفطرات، وكذلك الحج والعمرة [21]

ومن الغفلة عن مثل هـذه القاعدة التي تصرح بالترابط والتلازم بين تحقيق الشروط وانتفاء الموانع، تجد بعض الناس يحرص على تحقيق شروط عبادة من العبادات، ويتوسع في أداء سننها وآدابها، في الوقت الذي يغفل عن المبطلات لها، أو المؤثرة في صحتها..

إلى غير ذلك من قواعد عبادية كثيرة...

التالي السابق


الخدمات العلمية