الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 68 ] وعلم بأن الاختلاف من آثار الرحمة ، فمهما كان الاختلاف أكثر كانت الرحمة أوفر ، لما قالوا : [ ص: 69 ] رسم المفتي أن ما اتفق عليه أصحابنا في الروايات الظاهرة يفتى به قطعا . [ ص: 70 ] واختلف فيما اختلفوا فيه ، والأصح كما في السراجية وغيرها أنه يفتي بقول الإمام [ ص: 71 ] على الإطلاق ، ثم بقول الثاني ، ثم بقول الثالث ، ثم بقول زفر والحسن بن زياد ، وصحح في الحاوي القدسي قوة المدرك

التالي السابق


( قوله : وعلم ) خبر آخر عن قوله وهذا : أي وهذا القول علم منه : أي دليل علمه بأن الاختلاف إلخ ط . وفي بعض النسخ وعلمه بالضمير ، وهو المناسب .

( قوله : بأن الاختلاف ) أي بين المجتهدين في الفروع لا مطلق الاختلاف . مطلب في حديث { اختلاف أمتي رحمة }

. ( قوله : من آثار الرحمة ) فإن اختلاف أئمة الهدى توسعة للناس كما في أول التتارخانية ، وهذا يشير إلى الحديث المشهور على ألسنة الناس ، وهو { اختلاف أمتي رحمة } قال في المقاصد الحسنة : رواه البيهقي بسند منقطع عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بلفظ : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { مهما أوتيتم من كتاب الله فالعمل به لا عذر لأحد في تركه ، فإن لم يكن في كتاب الله فسنة مني ماضية ، فإن لم تكن سنة مني فما قال أصحابي ، إن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء ، فأيما أخذتم به اهتديتم ، واختلاف أصحابي لكم رحمة } وأورده ابن الحاجب في المختصر بلفظ { اختلاف أمتي رحمة للناس } وقال منلا علي القاري : إن السيوطي قال : أخرجه نصر المقدسي في الحجة والبيهقي في الرسالة الأشعرية بغير سند ، ورواه الحليمي والقاضي حسين وإمام الحرمين وغيرهم ، ولعله خرج في بعض كتب الحفاظ التي لم تصل إلينا . ونقل السيوطي عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يقول : ما سرني لو أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا ; لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة . وأخرج الخطيب أن هارون الرشيد قال لمالك بن أنس : يا أبا عبد الله نكتب هذه الكتب يعني مؤلفات الإمام مالك ونفرقها في آفاق الإسلام لنحمل عليها الأمة ، قال : يا أمير المؤمنين ، إن اختلاف العلماء رحمة من الله تعالى على هذه الأمة ، كل يتبع ما صح عنده ، وكلهم على هدى ، وكل يريد الله تعالى ، وتمامه في [ كشف الخفاء ومزيل الإلباس ] لشيخ مشايخنا الشيخ إسماعيل الجراحي .

( قوله : كانت الرحمة أوفر ) أي الإنعام أزيد ط .

( قوله : لما قالوا ) باللام : أي لما رواه العلماء في شأن ذلك ، وهو الحديث السابق وغيره ، ويحتمل أنها كاف معلقة حرفها النساخ أي كما قال العلماء ذلك ، ويحتمل أن جملة قوله رسم المفتي مقول القول ومحط التعليل على التخيير في الإفتاء بالقولين المصححين ، فإن في ذلك رحمة وتوسعة ط . [ ص: 69 ] مطلب رسم المفتي

. ( قوله : رسم المفتي ) أي العلامة التي تدل المفتي على ما يفتي به وهو مبتدأ ، وقوله أن إلخ خبره . قال في [ فتح القدير ] : وقد استقر رأي الأصوليين على أن المفتي هو المجتهد ، فأما غير المجتهد ممن يحفظ أقوال المجتهد فليس بمفت ، والواجب عليه إذا سئل أن يذكر قول المجتهد كالإمام على وجه الحكاية ، فعرف أن ما يكون في زماننا من فتوى الموجودين ليس بفتوى ، بل هو نقل كلام المفتي ليأخذ به المستفتي . وطريق نقله لذلك عن المجتهد أحد أمرين : إما أن يكون له سند فيه ، أو يأخذه من كتاب معروف تداولته الأيدي نحو كتب محمد بن الحسن ونحوها ; لأنه بمنزلة الخبر المتواتر أو المشهور انتهى ط .

( قوله : في الروايات الظاهرة ) اعلم أن مسائل أصحابنا الحنفية على ثلاث طبقات أشرت إليها سابقا ملخصة ونظمتها :

الأولى مسائل الأصول ، وتسمى ظاهر الرواية أيضا ، وهي مسائل مروية عن أصحاب المذهب ، وهم أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد ، ويلحق بهم زفر والحسن بن زياد وغيرهما ممن أخذ عن الإمام ، لكن الغالب الشائع في ظاهر الرواية أن يكون قول الثلاثة وكتب ظاهر الرواية ، كتب محمد الستة المبسوط والزيادات والجامع الصغير والسير الصغير والجامع الكبير ، وإنما سميت بظاهر الرواية ; لأنها رويت عن محمد بروايات الثقات ، فهي ثابتة عنه إما متواترة أو مشهورة عنه .

الثانية مسائل النوادر ، وهي المروية عن أصحابنا المذكورين لكن لا في الكتب المذكورة ، بل إما في كتب أخر لمحمد كالكيسانيات والهارونيات والجرجانيات والرقيات ، وإنما قيل لها غير ظاهر الرواية ; لأنها لم ترو عن محمد بروايات ظاهرة ثابتة صحيحة كالكتب الأولى ، وإما في كتب محمد كالمحرر للحسن بن زياد وغيره ومنها كتب الأمالي المروية عن أبي يوسف . والأمالي : جمع إملاء ، وهو ما يقوله العالم بما فتح الله تعالى عليه من ظهر قلبه ويكتبه التلامذة وكان ذلك عادة السلف ، وإما برواية مفردة كرواية ابن سماعة والمعلى بن منصور وغيرهما في مسائل معينة .

الثالثة الواقعات ، وهي مسائل استنبطها المجتهدون المتأخرون لما سئلوا عنها ولم يجدوا فيها رواية ، وهم أصحاب أبي يوسف ومحمد وأصحاب أصحابهما ، وهلم جرا ، وهم كثيرون ، فمن أصحابهما مثل عصام بن يوسف وابن رستم ومحمد بن سماعة وأبي سليمان الجرجاني وأبي حفص البخاري ، ومن بعدهم مثل محمد بن سلمة ومحمد بن مقاتل ونصير بن يحيى وأبي النصر القاسم بن سلام . وقد يتفق لهم أن يخالفوا أصحاب المذهب لدلائل وأسباب ظهرت لهم ، وأول كتاب جمع في فتواهم فيما بلغنا كتاب النوازل للفقيه أبي الليث السمرقندي ، ثم جمع المشايخ بعده كتبا أخر كمجموع النوازل والواقعات للناطفي والواقعات للصدر الشهيد ، ثم ذكر المتأخرون هذه المسائل مختلطة غير متميزة كما في فتاوى قاضي خان والخلاصة وغيرهما ، وميز بعضهم كما في كتاب المحيط لرضي الدين السرخسي ، فإنه ذكر أولا مسائل الأصول ثم النوادر ثم الفتاوى ونعم ما فعل .

واعلم أن من كتب مسائل الأصول كتاب الكافي للحاكم الشهيد ، وهو كتاب معتمد في نقل المذهب ، شرحه جماعة من المشايخ ، منهم الإمام شمس الأئمة السرخسي وهو المشهور بمبسوط السرخسي . قال العلامة الطرسوسي : [ ص: 70 ] مبسوط السرخسي لا يعمل بما يخالفه ، ولا يركن إلا إليه ، ولا يفتى ولا يعول إلا عليه ، ومن كتب المذهب أيضا المنتقى له أيضا إلا أن فيه بعض النوادر .

واعلم أن نسخ المبسوط المروي عن محمد متعددة ، وأظهرها مبسوط أبي سليمان الجوزجاني . وشرح المبسوط جماعة من المتأخرين مثل شيخ الإسلام بكر المعروف بخواهر زاده ويسمى المبسوط الكبير وشمس الأئمة الحلواني وغيرهما ، ومبسوطاتهم شروح في الحقيقة ذكروها مختلطة بمبسوط محمد كما فعل شراح الجامع الصغير مثل فخر الإسلام وقاضي خان وغيرهم ، فيقال ذكره قاضي خان في الجامع الصغير والمراد شرحه وكذا في غيره ا هـ ملخصا من شرح البيري على الأشباه وشرح الشيخ إسماعيل النابلسي على شرح الدرر فاحفظ ذلك فإنه مهم كحفظ طبقات مشايخ المذهب ، وسنذكرها قريبا إن شاء الله تعالى . مطلب في طبقات المسائل وكتب ظاهر الرواية

وفي كتاب الحج من البحر أن كافي الحاكم هو جمع كلام محمد في كتبه الستة التي هي ظاهر الرواية ، وفسر في معراج الدراية قبيل باب الإحصار الأصل بالمبسوط ، وفي باب العيدين من البحر والنهر أن الجامع الصغير صنفه محمد بعد الأصل ، فما فيه هو المعول عليه ، ثم قال في النهر : سمي الأصل أصلا ; لأنه صنف أولا ، ثم الجامع الصغير ، ثم الكبير ، ثم الزيادات ، كذا في غاية البيان . ا هـ . وذكر الإمام شمس الأئمة السرخسي في أول شرحه على السير الكبير أن السير الكبير هو آخر تصنيف صنفه محمد في الفقه .

وفي شرح المنية لابن أمير الحاج الحلبي في بحث التسميع أن محمدا قرأ أكثر الكتب على أبي يوسف إلا ما كان فيه اسم الكبير فإنه من تصنيف محمد : كالمضاربة الكبير والمزارعة الكبير والمأذون الكبير والجامع الكبير والسير الكبير ، وتمام هذه الأبحاث في منظومتنا في رسم المفتي وفي شرحها . [ تتمة ]

قدمنا عن فتح القدير كيفية الإفتاء مما في الكتب ، فلا يجوز الإفتاء مما في الكتب الغريبة . وفي شرح الأشباه لشيخنا المحقق هبة الله البعلي ، قال شيخنا العلامة صالح الجنيني : إنه لا يجوز الإفتاء من الكتب المختصرة كالنهر وشرح الكنز للعيني والدر المحتار شرح تنوير الأبصار ، أو لعدم الاطلاع على حال مؤلفيها كشرح الكنز لمنلا مسكين وشرح النقاية للقهستاني ، أو لنقل الأقوال الضعيفة فيها كالقنية للزاهدي ، فلا يجوز الإفتاء من هذه إلا إذا علم المنقول عنه وأخذه منه ، هكذا سمعته منه وهو علامة في الفقه مشهور والعهدة عليه . ا هـ .

أقول : وينبغي إلحاق الأشباه والنظائر بها ، فإن فيها من الإيجاز في التعبير ما لا يفهم معناه إلا بعد الاطلاع على مأخذه ، بل فيها في مواضع كثيرة الإيجاز المخل ، يظهر ذلك لمن مارس مطالعتها مع الحواشي فلا يأمن المفتي من الوقوع في الغلط إذا اقتصر عليها فلا بد له من مراجعة ما كتب عليها من الحواشي أو غيرها . ورأيت في حاشية أبي السعود الأزهري على شرح منلا مسكين أنه لا يعتمد على فتاوى ابن نجيم ولا على فتاوى الطوري . مطلب إذا تعارض التصحيح

. ( قوله : والأصح كما في السراجية ) أقول : عبارتها ثم الفتوى على الإطلاق على قول أبي حنيفة ، ثم قول أبي يوسف ثم قول محمد ، ثم قول زفر والحسن بن زياد . وقيل إذا كان أبو حنيفة في جانب وصاحباه في جانب فالمفتي بالخيار ، والأول أصح إذا لم يكن المفتي مجتهدا ا هـ فمقابل الأصح غير مذكور في كلام الشارح فافهم .

( قوله : بقول الإمام ) [ ص: 71 ] قال عبد الله بن المبارك لأنه رأى الصحابة وزاحم التابعين في الفتوى ، فقوله أشد وأقوى ما لم يكن اختلاف عصر وزمان كذا في تصحيح العلامة قاسم .

( قوله : على الإطلاق ) أي سواء انفرد وحده في جانب أو لا كما يفيده كلام السراجية من مقابلته بالقول الثاني المفصل فافهم .

( قوله : ثم بقول الثاني ) أي ثم إذا لم يوجد للإمام رواية يؤخذ بقول الثاني وهو أبو يوسف ، فإن لم يوجد له رواية أيضا فيؤخذ بقول الثالث وهو محمد إلخ .

( قوله : وصحح في الحاوي القدسي قوة المدرك ) أي الدليل وبه عبر في الحاوي . قال ح : والذي يظهر في التوفيق أي بين ما في الحاوي وما في السراجية أن من كان له قوة إدراك لقوة المدرك يفتي بالقول القوي المدرك وإلا فالترتيب . ا هـ .

أقول : يدل عليه قول السراجية والأول أصح إذا لم يكن المفتي مجتهدا ، فهو صريح في أن المجتهد يعني من كان أهلا للنظر في الدليل يتبع من الأقوال ما كان دليلا وإلا فاتبع الترتيب السابق ، ومن هذا تراهم قد يرجحون قول بعض أصحابه على قوله كما رجحوا قول زفر وحده في سبع عشرة مسألة ، فنتبع ما رجحوه ; لأنهم أهل النظر في الدليل ، ولم يذكر ما إذا اختلفت الروايات عن الإمام أو لم يوجد عنه ولا عن أصحابه رواية أصلا ، ففي الأول يؤخذ بأقواها حجة كما في الحاوي ، ثم قال : وإذا لم يوجد في الحادثة عن واحد منهم جواب ظاهر وتكلم فيه المشايخ المتأخرون قولا واحدا يؤخذ به ، فإن اختلفوا يؤخذ بقول الأكثرين ثم الأكثرين مما اعتمد عليه الكبار المعروفون منهم كأبي حفص وأبي جعفر وأبي الليث والطحاوي وغيرهم ممن يعتمد عليه ، وإن لم يوجد منهم جواب ألبتة نصا ينظر المفتي فيها نظر تأمل وتدبر واجتهاد ليجد فيها ما يقرب إلى الخروج عن العهدة ولا يتكلم فيها جزافا ، ويخشى الله تعالى ويراقبه ، فإنه أمر عظيم لا يتجاسر عليه إلا كل جاهل شقي . ا هـ . [ تتمة ]

قد جعل العلماء الفتوى على قول الإمام الأعظم في العبادات مطلقا وهو الواقع بالاستقراء ، ما لم يكن عنه رواية كقول المخالف كما في طهارة الماء المستعمل والتيمم فقط عند عدم غير نبيذ التمر كذا في شرح المنية الكبير للحلبي في بحث التيمم .

وقد صرحوا بأن الفتوى على قول محمد في جميع مسائل ذوي الأرحام . وفي قضاء الأشباه والنظائر : الفتوى : على قول أبي يوسف فيما يتعلق بالقضاء كما في القنية والبزازية ا هـ أي لحصول زيادة العلم له به بالتجربة ، ولذا رجع أبو حنيفة عن القول بأن الصدقة أفضل من حج التطوع لما حج وعرف مشقته . وفي شرح البيري أن الفتوى على قول أبي يوسف أيضا في الشهادات . وعلى قول زفر في سبع عشرة مسألة حررتها في رسالة ، وينبغي أن يكون هذا عند عدم ذكر أهل المتون للتصحيح ، وإلا فالحكم بما في المتون كما لا يخفى ; لأنها صارت متواترة ا هـ : وإذا كان في مسألة قياس واستحسان فالعمل على الاستحسان إلا في مسائل معدودة مشهورة .

وفي باب قضاء الفوائت من البحر : المسألة إذا لم تذكر في ظاهر الرواية وثبتت في رواية أخرى تعين المصير إليها . ا هـ . وفي آخر المستصفى للإمام النسفي : إذا ذكر في المسألة ثلاث أقوال فالراجح هو الأول أو الأخير لا الوسط . ا هـ . وفي شرح المنية : ولا ينبغي أن يعدل عن الدراية إذا وافقتها رواية . ا هـ . ذكره في واجبات الصلاة في معرض ترجيح رواية وجوب الرفع من الركوع والسجود للأدلة الواردة مع أنها خلاف الرواية المشهورة عن الإمام .




الخدمات العلمية