الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        يلزم كل واحد من المتبايعين تسليم العوض الذي يستحقه الآخر . فإن قال كل : لا أسلم حتى أقبض ما أستحقه ، فأربعة أقوال . أحدها : يلزم الحاكم كل واحد بإحضار ما عليه ، فإذا أحضر ، سلم الثمن إلى البائع ، والمبيع إلى المشتري ، يبدأ بأيهما شاء ، أو يأمرهما بالوضع عند عدل ليفعل العدل ذلك . والثاني : لا يجبر واحدا منهما ، بل يمنعهما من التخاصم . فإذا سلم أحدهما ، أجبر الآخر . والثالث : يجبر المشتري . وأظهرهما : يجبر البائع . وقيل : يجبر البائع قطعا ، واختاره الشيخ أبو حامد . هذا إذا كان الثمن في الذمة ، فإن كان معينا سقط القول الثالث .

                                                                                                                                                                        قلت : الذي قطع به الجمهور وهو المذهب : أنه يسقط الرابع أيضا ، كما إذا باعه عرضا بعرض ; لأن الثمن يتعين بالتعيين عندنا . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        وإن تبايعا عرضا بعرض ، سقط القول الرابع أيضا ، وبقي الأولان . أظهرهما : يجبران ، وبه قطع في الشامل . فإذا قلنا : يجبر البائع أولا ، أو قلنا : لا يجبر ، فتبرع ، وسلم أولا ، أجبر المشتري على تسليم الثمن في الحال إن كان حاضرا في المجلس ، وإلا فللمشتري حالان . [ ص: 525 ] أحدهما : أن يكون موسرا ، فإن كان ماله في البلد ، حجر عليه أن يسلم الثمن ، لئلا يتصرف في أمواله بما يبطل حق البائع . وحكى الغزالي وجها : أنه لا يحجر عليه ، ويمهل إلى أن يأتي بالثمن . ولم أر هذا الوجه على هذا الإطلاق لغيره . فإذا قلنا بالمذهب المعروف ، قال جماهير الأصحاب : يحجر عليه في المبيع وسائر أمواله . وقيل : لا يحجر في سائر أمواله إن كان ماله وافيا بديونه . وعلى هذا ، هل يدخل المبيع في الاحتساب ؟ وجهان . أشبههما : يدخل .

                                                                                                                                                                        قلت : هذا الحجر يخالف الحجر على المفلس من وجهين ، أحدهما : أنه لا يسلط على الرجوع إلى عين المال . والثاني : أنه لا يتوقف على ضيق المال عن الوفاء . واتفقوا على أنه إذا كان محجورا عليه بالفلس ، لم يحجر أيضا هذا الحجر ، لعدم الحاجة إليه . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        وإن كان ماله غائبا عن البلد ، نظر ، إن كان على مسافة القصر ، لم يكلف البائع الصبر إلى إحضاره . وفيما يفعل وجهان . أحدهما : يباع في حقه ويودى من ثمنه . وأصحهما عند الأكثرين : أن له فسخ البيع لتعذر تحصيل الثمن ، كما لو أفلس المشتري بالثمن . فإن فسخ ، فذاك ، وإن صبر إلى الإحضار ، فالحجر على ما سبق . وقال ابن سريج : لا فسخ ، بل يرد المبيع إلى البائع ، ويحجر على المشتري ، ويمهل إلى الإحضار ، وزعم في " الوسيط " أنه الأصح ، وليس كذلك . وإن كان دون مسافة القصر ، فهل هو كالذي في البلد ، أو كالذي على مسافة القصر ؟ وجهان .

                                                                                                                                                                        قلت : أصحهما الأول ، وبه قطع في " المحرر " . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        الحال الثاني : أن يكون معسرا ، فهو مفلس ، والبائع أحق بمتاعه ، هذا هو الصحيح المنصوص . وفيه وجه ضعيف : أنه لا فسخ ، بل تباع السلعة ويوفى من ثمنها حق البائع ، فإن فضل شيء ، فللمشتري .

                                                                                                                                                                        [ ص: 526 ] فرع

                                                                                                                                                                        جميع ما ذكرناه من الأقول والتفريع ، جار فيما إذا اختلف المكري والمستأجر في الابتداء بالتسليم بلا فرق .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        هنا أمر مهم ، وهو أن طائفة توهمت أن الخلاف في الابتداء بالتسليم ، خلاف في أن البائع ، هل له حق الحبس ، أم لا ؟ إن قلنا : الابتداء بالبائع ، فليس له حبس المبيع لاستيفاء الثمن ، وإلا فله .

                                                                                                                                                                        ونازع الأكثرون فيه ، وقالوا : هذا الخلاف مفروض فيما إذا كان نزاعهما في مجرد الابتداء ، وكان كل واحد يبذل ما عليه ، ولا يخاف فوت ما عند صاحبه . فأما إذا لم يبذل البائع المبيع وأراد حبسه خوفا من تعذر الثمن ، فله ذلك بلا خلاف ، وكذلك للمشتري حبس الثمن خوفا من تعذر المبيع . وبهذا صرح الشيخ أبو حامد ، والماوردي .

                                                                                                                                                                        والمثبتون من المتأخرين قالوا : وإنما يحبس البائع المبيع إذا كان الثمن حالا . أما المؤجل فليس له الحبس به ، لرضاه بتأخيره . ولو لم يتفق التسليم حتى حل الأجل ، فلا حبس أيضا . ولو تبرع بالتسليم ، لم يكن له رده إلى حبسه ، وكذا لو أعاره للمشتري على الأصح . ولو أودعه إياه ، فله ذلك . ولو صالح من الثمن على مال ، فله إدامة حبسه لاستيفاء العوض . ولو اشترى بوكالة اثنين شيئا ، ووفى نصف الثمن عن أحدهما ، لم يلزم البائع تسليم النصف ، بناء على أن الاعتبار بالعاقد . ولو باع بوكالة اثنين ، فإذا قبض نصيب أحدهما من الثمن ، لزم تسليم النصف ، كذا قاله في " التهذيب " وينبغي أن يجيء وجه في لزوم تسليم النصف من الوجهين السابقين [ ص: 527 ] في باب [ تفريق ] الصفقة ، أن البائع إذا قبض بعض الثمن ، هل يلزمه تسليم قسطه من المبيع ؟ ووجه في جواز أخذ الوكيل لأحدهما وحده من الوجهين في العبد المشترك إذا باعاه ، هل لأحدهما أن يتفرد بأخذ نصيبه .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية