الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        إذا تحول بعض حمام برجه إلى برج غيره . فإن كان المتحول ملكا للأول ، لم يزل ملكه عنه ، ويلزم الثاني رده . فإن حصل بينهما بيض أو فرخ ، فهو تبع للأنثى دون الذكر . ولو ادعى تحول حمامه إلى برج غيره ، لم يصدق إلا ببينة ، والورع أن يصدقه ، إلا أن يعلم كذبه . وإن كان المتحول مباحا دخل برج الأول ، فعلى الخلاف السابق في دخول الصيد ملكه . فإن قلنا بالأصح : إنه لا يملكه ، فللثاني أن يتملكه ، ومن دخل برجه حمام وشك هل هو مباح أم مملوك ؟ فهو أولى به وله التصرف فيه ؛ لأن الظاهر أنه مباح . ولو تحقق أنه اختلط بملكه ملك غيره ، وعسر التمييز ، ففي " التهذيب " : أنه لو اختلطت حمامة واحدة بحماماته ، فله أن يأكل بالاجتهاد واحدة واحدة حتى تبقى واحدة . كما لو اختلطت ثمرة الغير بثمره . والذي حكاه الروياني : أنه ليس له أن يأكل واحدة منها حتى يصالح [ ص: 259 ] ذلك الغير أو يقاسمه . ولهذا قال بعض مشايخنا : ينبغي للمتقي أن يجتنب طير البروج ، وأن يجتنب بناءها . ونقل الإمام وغيره : أنه ليس لواحد منهما التصرف في شيء منها ببيع أو هبة لثالث ؛ لأنه لا يتحقق الملك . ولو باع أحدهما أو وهب للآخر ، صح على الأصح ، وتحتمل الجهالة للضرورة . ولو باعا الحمام المختلط كله أو بعضه لثالث ، ولا يعلم كل واحد منهما عين ماله ، فإن كانت الأعداد معلومة كمائتين ومائة ، والقيمة متساوية ، ووزعا الثمن على أعدادهما ، صح البيع باتفاق الأصحاب ، وإن جهلا العدد ، لم يصح ؛ لأنه لا يعلم كل واحد حصته من الثمن . فالطريق أن يقول كل واحد : بعتك الحمام الذي لي في هذا البرج بكذا ، فيكون الثمن معلوما . ويحتمل الجهل في المبيع للضرورة . قال في " الوسيط " : لو تصالحا على شيء ، صح البيع واحتمل الجهل بقدر المبيع ، ويقرب من هذا ، ما أطلق في مقاسمتهما .

                                                                                                                                                                        واعلم أن الضرورة قد تجوز المسامحة ببعض الشروط المعتبرة في العقود ، كالكافر إذا أسلم على أكثر من أربع نسوة ومات قبل الاختيار ، يصح اصطلاحهن على القسمة بالتساوي أو بالتفاوت مع الجهل بالاستحقاق ، فيجوز أن تصح القسمة هنا أيضا بحسب تراضيهما ، ويجوز أن يقال : إذا قال كل منهما : بعت ما لي من حمام هذا البرج بكذا ، والأعداد مجهولة ، يصح أيضا مع الجهل بما يستحق كل واحد منهما ، والمقصود أن ينفصل الأمر بحسب ما يتراضيان عليه ولو باع أحدهما جميع حمام البرج بإذن الآخر ، فيكون أصيلا في البعض ووكيلا في البعض ، جاز ، ثم يقتسمان الثمن .

                                                                                                                                                                        [ ص: 260 ] فرع

                                                                                                                                                                        لو اختلطت حمامة مملوكة ، أو حمامات بحمامات مباحة محصورة ، لم يجز الاصطياد منها . ولو اختلطت بحمام ناحية ، جاز الاصطياد في الناحية . ولا يتغير حكم ما لا يحصر في العادة باختلاط ما يحصر به . وإن اختلط حمام أبراج مملوكة لا يكاد يحصر بحمام بلدة أخرى مباحة ، ففي جواز الاصطياد منها وجهان . أصحهما : يجوز ، وإليه ميل معظم الأصحاب .

                                                                                                                                                                        قلت : من أهم ما يجب معرفته ، ضبط العدد المحصور ، فإنه يتكرر في أبواب الفقه وقل من بينه ، قال الغزالي في " الإحياء " في كتاب الحلال والحرام : تحديد هذا غير ممكن ، وإنما يضبط بالتقريب . قال : فكل عدد لو اجتمع في صعيد واحد ، يعسر على الناظر عدهم بمجرد النظر ، كالألف ونحوه ، فهو غير محصور . وما سهل كالعشرة والعشرين ، فهو محصور ، وبين الطرفين أوساط متشابهة تلحق بأحد الطرفين بالظن . وما وقع فيه الشك ، استفتي فيه القلب . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        إذا انثالت حنطته على حنطة غيره ، أو انصب مائعه في مائعه ، وجهلا قدرهما ، فليكن الحكم فيهما على ما ذكرنا في الحمام المختلط .

                                                                                                                                                                        [ ص: 261 ] فرع

                                                                                                                                                                        لو ملك الماء بالاستقاء ، ثم انصب في نهر ، لم يزل ملكه منه ، ولا يمنع الناس من الاستقاء ، وهو في حكم اختلاط المحصور بغير محصور .

                                                                                                                                                                        قلت : ولو اختلط درهم حرام ، أو درهم بدراهمه ولم تتميز ، أو دهن بدهن ، أو نحو ذلك ، قال الغزالي في " الإحياء " وغيره من أصحابنا : طريقه أن يفصل قدر الحرام فيصرفه إلى الجهة التي يحب صرفه إليها ، ويبقى الباقي له يتصرف فيه بما أراد . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية