الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        من شرع في صوم تطوع فنذر إتمامه ، لزمه إتمامه على الصحيح ، ويجري الخلاف فيمن نذر أن يتم صوم كل يوم نوى فيه صوم النفل . وإذا أصبح ممسكا ولم ينو ، فهو متمكن من صوم التطوع . فلو نذر أن يصوم ، فقد أطلقوا في لزوم الوفاء قولين بناء على أن النذر ينزل على واجب الشرع ، أم على ما يصح ؟ قال الإمام : والذي أراه اللزوم ، قال : وقال الأصحاب : لو قال : علي أن أصلي ركعة واحدة ، لم يلزمه إلا ركعة . ولو قال : علي أن [ ص: 313 ] أصلي كذا قاعدا ، لزمه القيام عند القدرة إذا حملنا المنذور على واجب الشرع ، وإنهم تكلفوا فرقا بينهما ، قال : ولا فرق ، فيجب تنزيلهما على الخلاف .

                                                                                                                                                                        فرع :

                                                                                                                                                                        لو نذر صوم بعض يوم ، لم ينعقد نذره على الأصح . وعلى الثاني ، ينعقد وعليه صوم يوم كامل . وذكر في التتمة تفريعا على الانعقاد : أنه لو أمسك بقية نهاره عن النذر ، أجزأه إن لم يكن أكل شيئا في أوله . فإن أكل ، لا يجزئه على الصحيح . وقد سبق في كتاب الصوم وجه : أنه إذا نوى التطوع بعد الأكل ، أجزأه . فعلى ذلك الوجه : يجزئه هذا عن نذره . ولو نذر أن يصلي بعض ركعة ، ففي انعقاده وجهان كالصوم . ووجه الانعقاد : أنه قد يؤمر بفعل ما دون ركعة ، ويثاب عليه ، وهو ما إذا أدرك الإمام بعد الركوع ، حتى يدرك به فضيلة الجماعة في الركعة الأخيرة . قال في التتمة : فعلى هذا ، يلزمه ركعة كاملة إن أراد أن يأتي بالمنذور منفردا . وإن اقتدى بإمام بعد الركوع في الركعة الأخيرة ، خرج عن نذره ؛ لأنه أتى بما التزمه وهو قربة في نفسه . وقطع غيره ، بأنه يلزمه ركعة مطلقا . ولو نذر ركوعا ، لزمه ركعة باتفاق المفرعين . ولو نذر تشهدا ، ففي التتمة : أنه يأتي بركعة يتشهد في آخرها ، أو يقتدي بمن قعد للتشهد في آخر صلاته ، أو يكبر ويسجد سجدة ، ويتشهد على طريقة من يقول : سجود التلاوة يقتضي التشهد ، فيخرج به عن نذره . ولو نذر سجدة فردة ، فطريقان . في التتمة : أن السجدة قربة ، بدليل سجدتي التلاوة والشكر . فيكون في انعقاد نذره ، الوجهان في نذر عيادة المريض ، وتشميت العاطس . فإن قلنا : لا ينعقد ، فالحكم كما في الركوع ، والطريق الثاني : لا ينعقد نذر [ ص: 314 ] السجدة قطعا ، وهو الأصح ، وبه قطع الشيخ أبو محمد بناء على الأصح ، أنها ليست قربة بلا سبب .

                                                                                                                                                                        فرع :

                                                                                                                                                                        لو نذر أن يحج هذه السنة . وهو على مائة فرسخ ، ولم يبق إلا يوم واحد ، فالمذهب : أنه لا ينعقد نذره ، ولا شيء عليه . وقيل : في لزوم كفارة بذلك خلاف سبق نظائره . وقيل : ينعقد نذره ، ويقضي في سنة أخرى .

                                                                                                                                                                        فرع :

                                                                                                                                                                        لو نذر أن يصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان ، ففي انعقاد نذره قولان أظهرهما عند الأكثرين : انعقاده . فعلى هذا ، إن قدم ليلا ، فلا صوم على الناذر ، إذ لم يوجد يوم قدومه . ولو عنى باليوم الوقت ، فالليل غير قابل للصوم ، ويستحب أن يصوم الغد ، أو يوما آخر . وإن قدم نهارا ، فللناذر أحوال .

                                                                                                                                                                        أحدها : أن يكون مفطرا ، فيلزمه أن يصوم عن نذره يوما . وهل نقول : لزمه بالنذر الصوم من أول اليوم ، أم من وقت القدوم ؟ وجهان . ويقال : قولان . أصحهما : الأول ، وبه قال ابن الحداد . وتظهر فائدة الخلاف في صور .

                                                                                                                                                                        منها : لو نذر اعتكاف اليوم الذي يقدم فيه فلان ، فقدم نصف النهار . إن قلنا بالأول ، اعتكف باقي اليوم وقضى ما مضى . قال الصيدلاني : وله أن يعتكف يوما مكانه . والظاهر : أنه يتعين . وإن قلنا بالثاني ، اعتكف باقي اليوم ، وليس عليه شيء آخر .

                                                                                                                                                                        [ ص: 315 ] ومنها : إذا قال لعبده : أنت حر اليوم الذي يقدم فيه فلان ، فباعه ضحوة ، ثم قدم فلان في بقية يومه ، فإن قلنا بالأول ، بان بطلان البيع وحرية العبد ، وبه قال ابن الحداد ، وإن قلنا بالثاني ، فالبيع صحيح ، ولا حرية . هذا إذا كان قدوم فلان بعد تفرقهما عن المجلس ولزوم العقد . أما لو قدم قبل انقضاء الخيار ، فيحصل العتق على الوجهين ؛ لأنه إذا وجدت الصفة المعلق عليها ، والخيار ثابت ، حصل العتق . ولو مات السيد ضحوة ، ثم قدم فلان ، لم يورث عنه على الوجه الأول ، ويورث على الثاني . ولو أعتقه عن كفارته ، ثم قدم ، لم يجزئه على الأول ، ويجزئه على الثاني .

                                                                                                                                                                        ومنها : لو قال لزوجته : أنت طالق يوم يقدم فلان ، فماتت ، أو مات الزوج في بعض الأيام ، ثم قدم فلان في بقية ذلك اليوم ، فإن قلنا بالأول ، بان أن الموت بعد الطلاق ، فلا توارث بينهما إن كان الطلاق بائنا ، وإن قلنا بالثاني ، لم يقع الطلاق . ولو خالعها في صدر النهار ، ثم قدم فلان في آخره ، فعلى الأول يتبين بطلان الخلع إن كان الطلاق بائنا ، وعلى الثاني ، يصح الخلع ، ولا يقع الطلاق المعلق .

                                                                                                                                                                        الحال الثاني : أن يقدم فلان والناذر صائم عن واجب من قضاء أو نذر ، فيتم ما هو فيه ، ويصوم لهذا النذر يوما آخر . واستحب الشافعي - رحمه الله - أن يعيد الصوم الواجب الذي هو فيه ؛ لأنه بان أنه صام يوما مستحق الصوم ، لكونه يوم قدوم فلان . قال في " التهذيب " : في هذا دليل على أنه إذا نذر صوم يوم بعينه ، ثم صامه عن نذر آخر أو قضاء ، ينعقد ، ويقضي نذر هذا اليوم .

                                                                                                                                                                        الحال الثالث : أنه يقدم وهو صائم تطوعا ، أو غير صائم ، لكنه ممسك ، قال في " التهذيب " : ويكون ذلك قبل الزوال ، فيبنى على أنه يلزمه الصوم من أول النهار ، أم من وقت القدوم ؟ إن قلنا بالأول ، لزمه صوم يوم آخر ، ويستحب أن يمسك بقية النهار ، وإن قلنا بالثاني ، ففي التتمة : أنه يبنى على [ ص: 316 ] جواز نذر صوم بعض يوم . إن جوزناه ، نوى إذا قدم ، وكفاه ذلك ، ويستحب أن يعيد يوما كاملا للخروج من الخلاف . وإن لم نجوزه ، فلا شيء عليه ، ويستحب أن يقضي . وقال في " التهذيب " : إن قلنا : يلزم الصوم من وقت القدوم ، فهنا وجهان . أصحهما : يلزمه صوم يوم آخر . والثاني : يلزمه إتمام ما هو فيه ، ويكون أوله تطوعا ، وآخره فرضا . كمن دخل في صوم تطوع ، ثم نذر إتمامه ، يلزمه الإتمام . هذا إذا كان صائما عن تطوع ، وإن لم يكن صائما ، نوى ، ويصوم بقية النهار إن كان قبل الزوال . أما إذا تبين للناذر أن فلانا يقدم غدا ، فنوى الصوم من الليل ، ففي إجزائه عن نذره وجهان . أصحهما : يجزئه ، وبه قطع الأكثرون ؛ لأنه بنى النية على أصل مظنون . وخص صاحب التتمة الوجهين بما إذا قلنا : يلزم الصوم من أول اليوم ، قال : فإن قلنا باللزوم من وقت القدوم ، لم يجزه .

                                                                                                                                                                        الحال الرابع : أن يقدم فلان يوم العيد ، أو في رمضان ، فهو كما لو قدم ليلا .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية