الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              6144 6509 - حدثني يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، أخبرني سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير في رجال من أهل العلم، أن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول وهو صحيح "إنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة ثم يخير". فلما نزل به ورأسه على فخذي غشي عليه ساعة، ثم أفاق فأشخص بصره إلى السقف ثم قال: "اللهم الرفيق الأعلى". قلت: إذا لا يختارنا، وعرفت أنه الحديث الذي كان يحدثنا به. قالت: فكانت تلك آخر كلمة تكلم بها النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله: "اللهم الرفيق الأعلى".

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ذكر فيه: حدثنا حجاج، ثنا همام، ثنا قتادة، عن أنس، عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه،

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 602 ] ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه". فقالت عائشة -أو بعض أزواجه- إنا لنكره الموت. قال: "ليس ذلك، ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته، فليس شيء أحب إليه مما أمامه، فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا حضر بشر بعذاب الله وعقوبته، فليس شيء أكره إليه مما أمامه، فكره لقاء الله فكره الله لقاءه".
                                                                                                                                                                                                                              اختصره أبو داود وعمرو، عن شعبة. وقال سعيد، عن قتادة، عن زرارة، عن سعد، عن عائشة - رضي الله عنها -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

                                                                                                                                                                                                                              ثم ساق حديث أبي موسى - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه".

                                                                                                                                                                                                                              وحديث سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير في رجال من أهل العلم، أن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول وهو صحيح "إنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة ثم يخير". فلما نزل به ورأسه على فخذي غشي عليه ساعة، ثم أفاق فأشخص بصره إلى السقف ثم قال: "اللهم الرفيق الأعلى". فقلت: إذا لا يختارنا، وعرفت أنه الحديث الذي كان يحدثنا به. قالت: فكانت تلك آخر كلمة تكلم بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم الرفيق الأعلى".

                                                                                                                                                                                                                              الشرح:

                                                                                                                                                                                                                              قوله: (اختصره أبو داود، وعمرو، عن شعبة)، كأنه يريد بحديث أبي داود ما رواه الترمذي عن محمود بن غيلان، عنه بلفظ حديث أبي موسى سواء من غير زيادة.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 603 ] والتعليق عن عمرو المذكور، أخرجه الطبراني في "أكبر معاجمه" عن أبي مسلم الكشي، ويوسف بن يعقوب القاضي قالا: ثنا عمرو بن مرزوق، أنا شعبة، فذكره بمثل لفظ أبي داود سواء. وتعليق سعيد إلى آخره أخرجه مسلم، عن محمد بن عبد الله الرزي، ثنا خالد، وحدثنا ابن يسار، وثنا محمد بن بكر كلاهما عن سعيد به.

                                                                                                                                                                                                                              وفي مسلم عن عائشة: إذا شخص البصر، وحشرج الصدر، واقشعر الجلد، وتشنجت الأصابع، فعند ذلك من أحب لقاء الله أحب الله.. الحديث. وعنها أيضا في "تفسير عبد بن حميد": إذا أراد الله بعبد خيرا قيض له قبل موته بعام ملكا يسدده ويوفقه حتى يقال: مات فلان بخير ما كان، فإذا حضر ورأى ثوابه تهرع نفسه، فذلك حين أحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، وإذا أراد بعبد سوءا قيض له قبل موته بعام شيطانا فأضله وفتنه حتى يقول الناس: مات بشر ما كان عليه فإذا حضر ورأى ما نزل به من العذاب تقلع نفسه، فذلك حين يكره لقاء الله، ويكره الله لقاءه.

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن جريج أنه - عليه السلام - قال لعائشة - رضي الله عنها - في تفسير قوله تعالى: إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون [المؤمنون: 99] "إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا له: نرجعك إلى الدنيا؟ فيقول: إلى دار الهموم والأحزان، ثم يقول: قدماني إلى الله، وأما الكافر فيقول: ارجعون لعلي أعمل صالحا [المؤمنون: 99، 100] وروينا عن ابن المبارك عن حيوة، أخبرنا أبو صخر، عن محمد بن كعب أنه قال: إذا استنقعت

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 604 ] نفس المؤمن جاء ملك الموت، فقال: السلام عليك يا ولي الله، الله يقرأ عليك السلام ثم ينزع بهذه الآية الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم [النحل: 32]. وفي حديث البراء - رضي الله عنه -: "لا تقبض روحه حتى يسلم عليه". ولابن ماجه بإسناد جيد من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا: "إذا كان الرجل صالحا قيل له: اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، اخرجي حميدة، وأبشري بروح وريحان، ورب راض غير غضبان، فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج".

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              المحبة والكراهية عبارة عما يحل في العبد من رضى أو سخط، قال الخطابي: واللقاء على وجوه منها: الرؤية، والمعاينة، والبعث، والنشور; لقوله تعالى: قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله [الأنعام: 31] أي: بالبعث، ومنها الموت، قال تعالى: قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم [الجمعة: 8]، وقوله: من كان يرجو لقاء الله [العنكبوت: 5] أي: يخاف الموت.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قوله: (فأشخص بصره إلى السقف). قيل: فيه دليل أنه كشف له عن مكانه في الجنة، وفيه: علم عائشة - رضي الله عنها - أنه يختار الأفضل.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 605 ] يقال: شخص بالفتح: ارتفع، وشخص بصره: إذا فتح عينيه، وجعل لا يطرف.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: ("اللهم الرفيق الأعلى") هو دعاء بالرفعة، وعلو المنزلة في الجنة، وهو أن يكون مع الرفيق الأعلى، وهو أفضل موضع في الجنة، وذكر عن الداودي أنه قال: الرفيق: سقف البيت. وهذا غير معروف في اللغة، وقد رددناه عليه فيما مضى، لا جرم قال هنا: إنه الجنة.

                                                                                                                                                                                                                              وقولها: (إذا لا يختارنا). تقرأ برفع الراء من يختار; لأنه فعل حال، و (إذا) إنما تنصب الفعل المستقبل إذا لم يعتمد ما بعدها على ما قبلها، وإذا لم يكن معها حرف عطف، فإن كان معها حرف عطف جاز الوجهان: الرفع، والنصب، وإذا لم يكن للفعل فعل، وهو هنا فعل حال; لأنها قالت: إذا لا يختارنا. أي: هو في هذه الحالة غير مختار لنا; لأن الحال لا تعمل فيها العوامل الماضية.

                                                                                                                                                                                                                              وقولها: (ورأسه على فخذي). لا يخالف حديثها الآخر: مات بين سحري ونحري. لجواز أن يكون رفع رأسه بعد إليه، ولم يتكلم، ثم مات.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية