الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( وأما ) المعتق المسكر فيحل شربه للتداوي واستمراء الطعام والتقوي على الطاعة عند أبي حنيفة وأبي يوسف رضي الله عنهما وروى محمد رحمه الله أنه لا يحل ، وهو قول الشافعي رحمه الله وأجمعوا على أنه لا يحل شربه للهو والطرب كذا روى أبو يوسف رحمه الله في الأمالي وقال لو أراد أن يشرب المسكر فقليله وكثيره حرام وقعوده لذلك والمشي إليه حرام .

                                                                                                                                ( وجه ) قول محمد والشافعي رحمهما الله ما روي عن سيدتنا عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { ما أسكر كثيره فقليله حرام } وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال { كل مسكر من عصير العنب } إنما سمي خمرا لكونه مخامرا للعقل ، ومعنى المخامرة يوجد في سائر الأشربة المسكرة وأبو حنيفة وأبو يوسف رضي الله عنهما احتجا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثار الصحابة الكرام رضي الله عنهم .

                                                                                                                                ( أما ) الحديث فما ذكره الطحاوي رحمه الله في شرح الآثار عن عبد الله ابن سيدنا عمر رضي الله تعالى عنهما { أن النبي عليه الصلاة والسلام أتي بنبيذ فشمه فقطب وجهه لشدته ، ثم دعا بماء فصبه عليه وشرب منه } ( وأما ) الآثار فمنها ما روي عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه كان يشرب النبيذ الشديد ، ويقول : " إنا لننحر الجزور وإن العتق منها لآل عمر ولا يقطعه إلا النبيذ الشديد .

                                                                                                                                ( ومنها ) ما روينا عنه أنه كتب إلى عمار بن ياسر رضي الله عنهما إني أتيت بشراب من الشام طبخ حتى ذهب ثلثاه وبقي ثلثه يبقى حلاله ويذهب حرامه وريح جنونه ، فمر من قبلك فليتوسعوا من أشربتهم ، نص على الحل ونبه على المعنى وهو زوال الشدة المسكرة بقوله " ويذهب ريح جنونه " ، وندب إلى الشرب بقوله " فليتوسعوا من أشربتهم ( ومنها ) ما روي عن سيدنا علي رضي الله عنه أنه أضاف قوما فسقاهم فسكر بعضهم فحده فقال الرجل : " تسقيني ثم تحدني " ، فقال سيدنا علي رضي الله عنه : " إنما أحدك للسكر وروي هذا المذهب عن عبد الله بن عباس وعبد الله ابن سيدنا عمر رضي الله عنهما أنه قال حين سئل عن النبيذ : اشرب الواحد والاثنين والثلاثة ، فإذا خفت السكر فدع ، وإذا ثبت الإحلال من هؤلاء الكبار من الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم فالقول بالتحريم يرجع إلى تفسيقهم ، وأنه بدعة ولهذا عد أبو حنيفة رضي الله عنه إحلال المثلث من شرائط مذهب السنة والجماعة ، فقال في [ ص: 117 ] بيانها : " أن يفضل الشيخين ، ويحب الختنين ، وأن يرى المسح على الخفين ، وأن لا يحرم نبيذ الخمر " لما أن في القول بتحريمه تفسيق كبار الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، والكف عن تفسيقهم ، والإمساك عن الطعن فيهم من شرائط السنة والجماعة .

                                                                                                                                ( وأما ) ما ورد من الأخبار ففيها طعن ، ثم بها تأويل ، ثم قول بموجبها ( أما ) الطعن فإن يحيى بن معين رحمه الله قد ردها ، وقال : " لا تصح عن النبي " عليه الصلاة والسلام وهو من نقلة الأحاديث ، فطعنه يوجب جرحا في الحديثين ( وأما ) التأويل فهو أنها محمولة على الشرب للتلهي توفيقا بين الدلائل صيانة لها عن التناقض ( وأما ) القول بالموجب فهو أن المسكر عندنا حرام ، وهو القدح الأخير ; لأن المسكر ما يحصل به الإسكار ، وإنه يحصل بالقدح الأخير ، وهو حرام قليله وكثيره ، وهذا قول بموجب الأحاديث إن ثبتت بحمد الله تعالى .

                                                                                                                                ( وأما ) قولهم : إن هذه الأشربة خمر لوجود معنى الخمر فيها ، وهو صفة مخامرة العقل قلنا : اسم الخمر للنيء من ماء العنب إذا صار مسكرا حقيقة ، ولسائر الأشربة مجاز ; لأن معنى الإسكار والمخامرة فيه كامل ، وفي غيره من الأشربة ناقص فكان حقيقة له مجازا لغيره ، وهذا لأنه لو كان حقيقة لغيره لكان الأمر لا يخلو من أحد وجهين : إما أن يكون اسما مشتركا ، وإما أن يكون اسما عاما ولا سبيل إلى الأول ; لأن شرط الاشتراك اختلاف المعنى ، فالاسم المشترك ما يقع على مسميات مختلفة الحدود والحقائق ، كاسم العين ونحوها ، وههنا ما اختلف ، ولا سبيل إلى الثاني ; لأن من شرط العموم : أن تكون أفراد العموم متساوية في قبول المعنى الذي وضع له اللفظ لا متفاوتة ، ولم يوجد التساوي ههنا ، وإذا لم يكن بطريق الحقيقة تعين أنه بطريق المجاز فلا يتناولها مطلق اسم الخمر ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية