الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  625 (وقال ابن أبي مريم : قال: أخبرنا يحيى بن أيوب قال: حدثني حميد قال: حدثني أنس، أن بني سلمة أرادوا أن يتحولوا عن منازلهم فينزلوا قريبا من النبي صلى الله عليه وسلم قال: فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعروا المدينة فقال: ألا تحتسبون آثاركم؟ قال مجاهد : خطاهم آثارهم أن يمشى في الأرض بأرجلهم )

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة ظاهرة، ورجاله تقدموا، وابن أبي مريم هو سعيد بن محمد بن الحكم بن أبي مريم المصري، ويحيى ابن أيوب الغافقي المصري .

                                                                                                                                                                                  قوله: " وحدثنا ابن أبي مريم " هكذا هو في رواية أبي ذر وحده، وفي رواية الباقين: وقال ابن أبي مريم، وقال صاحب التلويح: وقال ابن أبي مريم، ثم قال: هكذا ذكر هذا الحديث معلقا، وكذا ذكره أيضا صاحب الأطراف قال: والذي رأيت في كثير من نسخ البخاري، وحدثنا ابن أبي مريم وقال أبو نعيم في المستخرج: كذا ذكره البخاري بلا رواية، يعني معلقا، وقال بعضهم: هذا هو الصواب.

                                                                                                                                                                                  (قلت): هذه دعوى بلا دليل.

                                                                                                                                                                                  قوله: " عن أنس " هكذا هو في رواية أبي ذر وحده، وفي رواية الباقين: حدثنا أنس، وكذا ذكره أبو نعيم أيضا.

                                                                                                                                                                                  قوله: " فينزلوا قريبا " أي: منزلا قريبا من مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لأن ديارهم كانت بعيدة عن المسجد، وقد صرح بذلك في رواية مسلم من حديث جابر بن عبد الله يقول: كانت ديارنا بعيدة من المسجد، فأردنا أن نبتاع بيوتنا فنتقرب من المسجد، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إن لكم بكل خطوة درجة "، وفي مسند السراج من طريق أبي نضرة عن جابر " أرادوا أن يتقربوا من أجل الصلاة "، وفي رواية ابن مردويه من طريق أخرى، عن أبي نضرة عنه قال: " كانت منازلنا بسلع ".

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): في الاستسقاء من حديث أنس " وما بيننا وبين سلع من دار " فهذا يعارضه.

                                                                                                                                                                                  (قلت): لا تعارض لاحتمال أن تكون ديارهم كانت من وراء سلع، وبين سلع والمسجد قدر ميل.

                                                                                                                                                                                  قوله: " أن يعروا المدينة "، وفي رواية الكشميهني " أن يعروا منازلهم " وهو بضم الياء آخر الحروف وسكون العين المهملة أي: يتركوها عراء أي: فضاء خالية، قال عز وجل: فنبذناه بالعراء أي: بموضع خال، قال ابن سيده : هو المكان الذي لا يستتر فيه شيء. وقيل: الأرض الواسعة، وجمعه أعراء، وفي الغريبين: الممدود المتسع من الأرض، قيل له ذلك لأنه لا شجر فيه ولا شيء يغطيه، والعرا مقصورا الناحية، ووجه كراهة النبي عليه الصلاة والسلام في منعهم من القرب من المسجد هو أنه أراد أن تبقى جهات المدينة عامرة بساكنيها.

                                                                                                                                                                                  قوله: " وقال مجاهد : خطاهم آثار المشي في الأرض بأرجلهم " كذا هو في رواية أبي ذر، وفي رواية الباقين، وقال مجاهد : ونكتب ما قدموا وآثارهم قال: خطاهم، وهكذا وصله عبد بن حميد من طريق ابن أبي نجيح عنه، قال في قوله: ونكتب ما قدموا قال: أعمالهم، وفي قوله: وآثارهم قال: خطاهم، وأشار البخاري [ ص: 174 ] بهذا التعليق إلى أن قصة بني سلمة كانت سبب نزول هذه الآية، وقد ورد مصرحا به من طريق سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس أخرجه ابن ماجه، وقد ذكرناه عن قريب.

                                                                                                                                                                                  (ذكر ما يستفاد منه) فيه الدلالة على كثرة الأجر لكثرة الخطى في المشي إلى المسجد، وسئل أبو عبد الله بن لبابة عن الذي يدع مسجده ويصلي في المسجد الجامع للفضل في كثرة الناس، قال: لا يدع مسجده وإنما فضل المسجد الجامع للجمعة فقط، وعن أنس بن مالك أنه كان يجاوز المساجد المحدثة إلى المساجد القديمة وفعله مجاهد وأبو وائل، وأما الحسن فسئل: أيدع الرجل مسجد قومه ويأتي غيره؟ فقال: كانوا يحبون أن يكثر الرجل قومه بنفسه، وقال القرطبي : وهذه الأحاديث تدل على أن البعد من المسجد أفضل، فلو كان بجوار المسجد فهل له أن يجاوزه للأبعد، فكرهه الحسن، قال: وهو مذهبنا، وفي تخطي مسجده إلى المسجد الأعظم قولان واختلف فيمن كانت داره قريبة من المسجد، وقارب الخطى بحيث يساوي خطاه من داره بعيدة هل يساويه في الفضل أو لا، وإلى المساواة مال الطبري.

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): روى ابن أبي شيبة من طريق أنس قال: " مشيت مع زيد بن ثابت إلى المسجد فقارب بين الخطى وقال: أردت أن تكثر خطانا إلى المسجد ".

                                                                                                                                                                                  (قلت): لا يلزم منه المساواة في الفضل وإن دل على أن في كثرة الخطى فضيلة لأن ثواب الخطى الشاقة ليست كثواب الخطى السهلة، واستنبط بعضهم من الحديث استحباب قصد المسجد البعيد، ولو كان بجنبه مسجد قريب، فقيل هذا إذا لم يلزم من ذهابه إلى البعيد هجر القريب، وإلا فإحياؤه بذكر الله أولى، ثم إذا كان إمام القريب مبتدعا أو لحانا في القراءة أو قومه يكرهونه، فله أن يتركه ويذهب إلى البعيد وكذا إذا كان إمام البعيد بهذه الصفة، وفي رواحه إليه ليس هجر القريب له أن يترك البعيد ويصلي في القريب.

                                                                                                                                                                                  وفيه أن أعمال البر إذا كانت خالصة تكتب آثارها حسنات .

                                                                                                                                                                                  وفيه استحباب السكنى بقرب المسجد إلا لمن حصلت منه منفعة أخرى أو أراد تكثير الأجر بكثرة المشي ما لم يكلف نفسه، والدليل على ذلك أنهم طلبوا السكنى بقرب المسجد للفضل الذي علموه منه، فما أنكر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ذلك، وإنما كره ذلك لدرء المفسدة بإخلائهم جوانب المدينة كما ذكرناه.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية