الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( وأما ) الذي يرجع إلى صاحب الدين فطلب الحبس من القاضي فما لم يطلب لا يحبس ; لأن الدين حقه ، والحبس وسيلة إلى حقه ، ووسيلة حق الإنسان حقه وحق المرء إنما يطلب بطلبه فلا بد من الطلب للحبس ، وإذا عرف سبب وجوب الدين وشرائطه .

                                                                                                                                فإن ثبت عند القاضي السبب مع شرائطه بالحجة حبسه لتحقق الظلم عنده بتأخير حقه من غير ضرورة ، والقاضي نصب لدفع الظلم فيندفع الظلم عنه ، وإن اشتبه على القاضي حاله في يساره وإعساره ، ولم يقم عنده حجة على أحدهما وطلب الغرماء حبسه فإنه يحبس ليتعرف عن حاله أنه فقير أم غني ، فإن علم أنه غني حبسه إلى أن يقضي الدين ; لأنه ظهر ظلمه بالتأخير ، وإن علم أنه فقير خلى سبيله ; لأنه ظهر أنه لا يستوجب الحبس فيطلقه ، ولكن لا يمنع الغرماء عن ملازمته عند أصحابنا الثلاثة رضي الله عنهم ، إلا إذا قضى القاضي بالإنظار لاحتمال أن يرزقه الله سبحانه وتعالى مالا ، إذ المال غاد ورائح وعند زفر رحمه الله لا يلازمونه لقوله تبارك وتعالى { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } ذكر النظرة بحرف الفاء فثبت من غير قضاء القاضي .

                                                                                                                                ( ولنا ) أن النظرة هي التأخير فلا بد وأن يؤخر وهو أن يؤخره القاضي أو صاحب الحق ، ولا يمنعونه من التصرف ، ولا من السفر فإذا اكتسب يأخذون فضل كسبه فيقتسمونه بينهم بالحصص ، وإذا مضى على حبسه شهر ، أو شهران أو ثلاثة ولم ينكشف حاله في اليسار والإعسار خلى سبيله ; لأن هذا الحبس كان لاستبراء حاله وإبلاء عذره والثلاثة الأشهر مدة صالحة لاشتهار الحال وإبلاء العذر فيطلقه ، لكن الغرماء لا يمنعون من ملازمته فيلازمونه لكن لا يمنعونه من التصرف والسفر على ما ذكرنا ، ولو اختلفا في اليسار والإعسار فقال الطالب : هو موسر وقال المطلوب : أنا معسر فإن قامت لأحدهما بينة قبلت بينته ، وإن أقاما جميعا البينة فالبينة بينة الطالب ; لأنها تثبت [ ص: 174 ] زيادة وهي اليسار .

                                                                                                                                وإن لم يقم لهما بينة فقد ذكر محمد في الكفالة ، والنكاح ، والزيادات أنه ينظر إن ثبت الدين بمعاقدة كالبيع ، والنكاح ، والكفالة ، والصلح عن دم العمد ، والصلح عن المال والخلع ، أو ثبت تبعا فيما هو معاقدة كالنفقة في باب النكاح فالقول قول الطالب ، وكذا في الغصب والزكاة ، وإن ثبت الدين بغير ذلك كإحراق الثوب ، أو القتل الذي لا يوجب القصاص ، ويوجب المال في مال الجاني ، وفي الخطأ فالقول قول المطلوب وذكر الخصاف رحمه الله في أدب القاضي أنه إن وجب الدين عوضا عن مال سالم للمشتري نحو ثمن المبيع الذي سلم له البيع والقرض والغصب والسلم الذي أخذ المسلم إليه رأس المال فالقول قول الطالب ، وكل دين ليس له عوض أصلا كإحراق الثوب ، أو له عوض ليس بمال كالمهر وبدل الخلع وبدل الصلح عن دم العمد والكفالة فالقول قول المطلوب ، واختلف المشايخ فيه قال بعضهم : القول قول المطلوب على كل حال ولا يحبس ; لأن الفقر أصل في بني آدم ، والغنى عارض فكان الظاهر شاهدا للمطلوب فكان القول قوله مع يمينه ، وقال بعضهم : القول قول الطالب على كل حال لقوله عليه الصلاة والسلام " لصاحب الحق اليد واللسان " وقال بعضهم يحكم زيه إذا كان زيه زي الأغنياء فالقول قول الطالب وإن كان زيه زي الفقراء فالقول قول المطلوب ، وعن الفقيه أبي جعفر الهندواني رحمه الله أنه يحكم زيه فيؤخذ بحكمه في الفقر والغنى ، إلا إذا كان المطلوب من الفقهاء ، أو العلوية ، أو الأشراف ; لأن من عاداتهم التكلف في اللباس والتجمل بدون الغنى فيكون القول قول المديون أنه معسر ( وجه ) ما ذكره الخصاف رحمه الله : أن القول في الشرع قول من يشهد له الظاهر ، وإذا وجب الدين بدلا عن مال سلم له ، كان الظاهر شاهدا للطالب ; لأنه ثبتت قدرة المطلوب بسلامة المال ، وكذا في الزكاة أنها لا تجب إلا على الغني ، فكان الظاهر شاهدا للطالب .

                                                                                                                                ( وجه ) قول محمد رحمه الله وهو ظاهر الرواية : أن الظاهر شاهد للطالب فيما ذكرنا أيضا من طريق الدلالة وهو إقدامه على المعاقدة ، فإن الإقدام على التزوج دليل القدرة ، إذ الظاهر أن الإنسان لا يتزوج حتى يكون له شيء ، ولا يتزوج أيضا حتى يكون له قدرة على المهر ، وكذا الإقدام على الخلع ; لأن المرأة لا تخالع عادة حتى يكون عندها شيء ، وكذا الصلح لا يقدم الإنسان عليه إلا عند القدرة ، فكان الظاهر شاهدا للطالب في هذه المواضع فكان القول قوله ، والله تعالى أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية