الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 23 ] مسألة : قال الشافعي : " فإذا غاب الشفق الأحمر فهو أول وقت العشاء الآخرة والأذان "

                                                                                                                                            قال الماوردي : يكره أن تصلى هذه الصلاة باسم العتمة ، ويستحب أن تسمى عشاء الآخرة لرواية الشافعي عن سفيان ، عن أبي لبيد ، عن أبي سلمة ، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم هي العشاء إلا أنهم يعتمون بالإبل

                                                                                                                                            والعتم : الإبطاء والتأخير ، وإعتام الإبل هو تأخير علفها وحلبها . قال الشاعر :


                                                                                                                                            فلما رأينا أنه عاتم القرى بخيل ذكرنا ليلة الهضب كردما

                                                                                                                                            ولا يأثم مسميها بالعتمة ولا يستحق وعيدا به ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عنه نهي تحريم ، وإنما قال : " لا يغلبنكم الأعراب عليها " ، وإذا كان كذلك فأول وقت عشاء الآخرة إذا غاب الشفق إجماعا ، إلا أنهما شفقان : الأول وهو الحمرة ، والثاني وهو البياض ، واختلفوا هل يدخل وقتها بغيبوبة الشفق الأحمر أو بغيبوبة الشفق الأبيض ؟ فذهب الشافعي إلى أن وقتها يدخل إذا غاب الشفق الأحمر ، وهو في الصحابة قول عمر ، وابن عمر ، وابن عباس ، وأبي هريرة ، وعبادة بن الصامت ، ومن التابعين قول عطاء ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، والزهري ، ومكحول ومن الفقهاء قول مالك ، وابن أبي ليلى ، والثوري ، وأبي يوسف ، ومحمد ، وأحمد ، وإسحاق ، وذهب أبو حنيفة إلى أن دخول وقتها يكون بغيبوبة الشفق الأبيض ، وبه قال الأوزاعي ، والمزني ، استدلالا بقوله تعالى : أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل [ الإسراء : 78 ] . يعني : إظلامه ، وذلك لا يكون إلا بغيبوبة البياض ، ولما روى بشير بن أبي مسعود عن أبيه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عشاء الآخرة حين يسود الأفق ، ولأن صلاة العشاء تتعلق بغارب وصلاة الصبح بطالع ، فلما وجبت الصبح بالطالع الثاني اقتضى أن تجب العشاء بالغارب الثاني ، واستدل المزني : أن الصبح أول صلاة النهار والعشاء آخر صلاة الليل ، فلما وجبت الصبح بالبياض المتقدم على الشمس اقتضى أن تجب العشاء بالبياض المتأخر عن الشمس

                                                                                                                                            ودليلنا : حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : وصلى بي جبريل العشاء حين غاب الشفق وحمل إطلاقه على الأحمر أولى من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن الحكم إذا علق باسم اقتضى أن يتناول أول ما ينطلق عليه أول ذلك الاسم

                                                                                                                                            [ ص: 24 ] والثاني : أن الاسم إذا تناول شيئين على سواء كان حمله على أشهرهما أولى ، والأحمر من الشفقين أشهر في اللسان ، والعرب تقول : صبغت ثوبي شفقا ، وقيل : في قوله تعالى : فلا أقسم بالشفق [ الانشقاق : 16 ] . أنه الحمرة . قال الشاعر :


                                                                                                                                            رمقتها بنظرة من ذي علق     قد أثرت في خدها لون الشفق

                                                                                                                                            وروى حبيب بن سالم عن النعمان بن بشير قال : أنا أعلم الناس بوقت هذه الصلاة ، صلاة العشاء الآخرة ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليها لسقوط القمر لثلاثة " . ومعلوم أن القمر يسقط في الثالثة قبل الشفق الأبيض

                                                                                                                                            وروى سليمان بن موسى عن عطاء ، عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عشاء الآخرة قبل غيبوبة الشفق ، وبالإجماع أنها لا تجوز قبل الأحمر فثبت أنه صلاها بعد الأحمر وقبل الأبيض

                                                                                                                                            وروى مالك عن نافع ، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الشفق الحمرة فإذا غاب الشفق فقد وجبت الصلاة والشافعي رواه موقوفا عن ابن عمر وقد أسنده غيره ، ولأن إجماع أهل الأعصار في سائر الأمصار أنهم على إقامتها عند سقوط الأحمر لا يتناكرونه بينهم ، ولا يختلفون في فعله مع اختلافهم ، ولأن الشفق الأبيض قد روعي في بعض الأزمان وبعض البلدان فوجد لابثا إلى طلوع الفجر ، فروي عن الخليل بن أحمد أنه قال : راعيته فلم يغب حتى طلع الفجر . وكان يتنقل من جو إلى جو ، وحكى أبو عبيد عمن حدثه إذا راعاه في جبال اليمن ، فلم يغب حتى طلع الفجر ، وإذا كان الأبيض بهذه الحال لم يجز أن يكون وقتا لصلاة ، ولأن الطوالع ثلاثة الفجران ، والشمس ، والغوارب ثلاثة الشفقان ، والشمس ، فلما وجبت صلاة الصبح بالطالع الأوسط وهو الفجر الصادق اقتضى أن تجب العشاء بالغارب الأوسط - وهو الشفق الأحمر - ولأن صلاة الصبح من صلاة النهار وصلاة العشاء من صلاة الليل ، فلما وجبت الصبح بأقرب الفجرين من الشمس ، اقتضى أن تجب العشاء بأقرب الشفقين من الشمس ، ولأنها صلاة تجب بانتقال أحد النيرين فوجب أن تتعلق بأنورهما كالصبح

                                                                                                                                            وأما الآية فتأويل الغسق مختلف فيه فأحد تأويليه أنه إقبال الليل ودنوه ، فسقط الدليل بهذا التأويل [ ص: 25 ] والثاني : أنه اجتماع الليل وظلمته ، فعلى هذا قد يظلم الليل إذا غاب الشفق الأحمر ، أو يحمل على وقتها الثاني ، وكذا الجواب عن اسوداد الأفق ، وأما استدلالهم فمدفوع بمعارضتنا له بما ذكرنا من استدلالنا - والله أعلم بالصواب -

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية