الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " فإن خرج في آخر وقت الصلاة قصر ، وإن كان بعد الوقت لم يقصر . ( قال المزني ) : أشبه بقوله أن يتم ، لأنه يقول إن أمكنت المرأة الصلاة فلم تصل حتى حاضت ، أو أغمي عليها لزمتها ، وإن لم تمكن لم تلزمها ، فكذلك إذا دخل عليه وقتها [ ص: 376 ] وهو مقيم لزمته صلاة مقيم ، وإنما تجب عنده بأول الوقت ، والإمكان ، وإنما وسع له التأخير إلى آخر الوقت " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا كما قال إذا الرجل المقيم لا يخلو حال سفره من ثلاثة أقسام :

                                                                                                                                            إما أن يسافر قبل وقت الصلاة ، أو يسافر بعد الوقت ، أو يسافر في الوقت ، فإن سافر قبل دخول الوقت ثم دخل عليه وقت الصلاة في سفره فله قصر تلك الصلاة إجماعا ، وإن سافر بعد خروج الوقت وجب عليه إتمام تلك الصلاة في سفره فله قصر تلك الصلاة إجماعا ، وإن سافر بعد خروج الوقت وجب عليه إتمام تلك الصلاة ولم يجز أن يقصرها على ما سنذكره في موضعه .

                                                                                                                                            وإن سافر في وقت الصلاة فعلى أربعة أضرب :

                                                                                                                                            أحدها : أن يسافر في أول وقت الصلاة وقبل إمكان أدائها فله أن يقصرها في سفره . لا خلاف بين أصحابنا إلا على قول أبي يحيى البلخي .

                                                                                                                                            وإنما جاز له القصر ؟ لأنه أدى الصلاة في وقتها مسافرا فجاز له القصر قياسا على من دخل عليه وقت الصلاة في سفره .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن يسافر وقد مضى من الوقت أربع ركعات ، مذهب الشافعي وكافة أصحابنا : له أن يقصرها ، ولا يلزمه إتمامها ، وقال المزني : عليه إتمامها ، ولا يجوز له قصرها تعلقا بشيئين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن الصلاة تجب عند الشافعي بدخول الوقت ، وإمكان الأداء ، فإذا أمكنه الأداء بعد دخول الوقت وهو مقيم ، فقد وجبت عليه الصلاة تامة ، وإذا وجبت عليه الصلاة تامة لم يجز له القصر .

                                                                                                                                            والثاني : أنه قال : الحيض أقوى في إسقاط الصلاة من السفر : لأنه يسقط الصلاة بأسرها ، والسفر يسقط شطرها ، فلما تقرر أن الحيض إذا طرأ بعد دخول الوقت ، وإمكان الأداء وجبت الصلاة عليها ، ولم يكن الحيض مغيرا لحكمها ، كان حدوث السفر بعد إمكان الأداء أولى أن لا يغير حكم الصلاة . وهذا خطأ ودليلنا عموم قوله تعالى : وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة [ النساء : 101 ] . ولأنه سافر يحل لمثله القصر فوجب أنه إذا كان مؤديا للصلاة أن يجوز له قصرها ، أصله إذا سافر قبل دخول الوقت ، ولأن وجوب الصلاة أول الوقت ، واستقرار وجوبها بإمكان الأداء ، وقدر الصلاة ، وكيفية أدائها معتبر بحال الأداء . ألا ترى لو زالت الشمس على عبد ، أو مريض كان فرضهما الظهر أربعا ، فإن عتق العبد ، وبرأ المريض ، والوقت باق لزمهما الجمعة ، ولو دخل الوقت ، وهو صحيح كان فرضه الجمعة ، فإن مرض في الوقت قبل حضور الجمعة كان فرضه الظهر أربعا اعتبارا [ ص: 377 ] بحال الأداء في الموضعين معا ، وكذلك إذا كان في حال أدائها مسافرا يجوز له القصر وإن وجبت عليه وهو مقيم ، وفي هذا جواب لما استدل به من وجوب الصلاة ، وما ذكره من الحيض فغير لازم لأن الحيض إذا طرأ منع من الأداء ، وإذا طهرت وجب عليها القضاء ، والسفر إذا طرأ لم يمنع من الأداء ، فلذلك لم يمنع من القصر لوجود الأداء ، وعدم القضاء فافترقا .

                                                                                                                                            والضرب الثالث : أن يسافر وقد بقي من وقت الصلاة قدر أدائها ، فمذهب الشافعي وعامة أصحابه جواز قصرها ، وقال : أبو الطيب بن سلمة : يتم ، ولا يقصر : لأنه قد تعين عليه الأداء ليتعين عليه التمام وفارق أول الوقت لأنه لم يتعين عليه الأداء ، وما قدمناه من الدليل حجة عليه وليس لفرقه بين أول الوقت ، وآخره مع وجود الأداء في الموضعين وجه .

                                                                                                                                            والضرب الرابع : أن يسافر في آخر وقت الصلاة وقد بقي منه مقدار ركعة ففيه قولان :

                                                                                                                                            أحدهما : وهو المنصوص عليه في كتبه وعليه عامة أصحابه يتم الصلاة ، ولا يقصرها لعدم الأداء في جميعها .

                                                                                                                                            والقول الثاني : نص عليه في الإملاء . وبه قال : يجوز قصرها ، ولأن الصلاة قد تجب بآخر الوقت في أصحاب العذر ، والضرورات كوجوبها في أوله فاقتضى أن يستويا في جواز القصر .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية