الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي ، رضي الله عنه : " فمن احتلم ، أو حاض ، أو استكمل خمس عشرة سنة لزمه الفرض " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا صحيح : أما البلوغ في الغلمان ، فقد يكون بالسن ، والاحتلام ، فأما الاحتلام فهو الإنزال ، وهو البلوغ لقوله تعالى : وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا [ النور : 59 ] . وأما السن فإذا استكمل خمس عشرة سنة صار بالغا لحديث ابن عمر ، وخالفه أبو حنيفة في سن البلوغ ، وسيأتي الكلام معه في كتاب " الحج " إن شاء الله ، فأما غلظ الصوت ، واخضرار الشارب ، ونزول العارضين فليس ببلوغ لا يختلف ، فأما إنبات الشعر في العانة فإن كان زغبا لم يكن بلوغا ، وإن كان شعرا قويا كان بلوغا في المشركين ، ولما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم سعد بن معاذ في بني قريظة فحكم بقتل من جرت عليه المواسي ، وسبي الذراري ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ، وقال : " لقد حكمت بحكم الله عز وجل من فوق سبع أرقعة ، يعني : سبع سماوات . قال : وكنا نكشف مؤتزرهم فمن أنبت قتلناه ، ومن لم ينبت جعلناه في الذراري ، فأما حكمنا في بلوغ المشركين بالإنبات فهل هو بلوغ فيهم حقيقة ، أو دلالة على بلوغهم ؟ على قولين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه بلوغ فيهم .

                                                                                                                                            والثاني : أنه دلالة على بلوغهم ، فإن قلنا : إنه بلوغ فيهم كان بلوغا في المسلمين كالاحتلام ، وإذا قلنا : دلالة فيهم ، فهل يكون دلالة في المسلمين أم لا ؟ على وجهين :

                                                                                                                                            [ ص: 315 ] أحدهما : يكون دلالة فيهم .

                                                                                                                                            والثاني : وهو أصح ، لا يكون دلالة ، ولا يحكم في بلوغهم .

                                                                                                                                            والفرق بينهما من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن التهمة تلحق المسلم في الإنبات إذا جعل بلوغا ، لأنه يستفيد فيه تخفيف أحكامه ، فله حجره والتصرف في ماله ، وقبول شهادته ، وكونه من أهل الولايات ، والكافر غير متهم لأن أحكامه تغلظ ، فيقتل إن كان حربيا ، ولا يقر على دينه إن كان وثنيا ، وتؤخذ جزيته إن كان كتابيا .

                                                                                                                                            والثاني : أن الضرورة داعية إلى جعل الإنبات بلوغا في المشركين ، لأنه لا تقبل شهادتهم على أنسابهم التي لا تعرف إلا من جهتهم ، وتقبل شهادة المسلمين ، فلم تدع الضرورة إلى جعل الإنبات بلوغا فيهم ، فأما الجارية فتبلغ بجميع ما يبلغ به الغلام وتبلغ أيضا بشيئين آخرين : وهما الحيض والحمل .

                                                                                                                                            فأما الحيض فبلوغ ، لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : إذا حاضت المرأة فلا يحل أن ينظر إلى شيء منها إلا وجهها وكفيها .

                                                                                                                                            وأما الحمل فيعلم به سن البلوغ إلا أنه في نفسه بلوغ ، قال الله تعالى : فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب [ الطارق : 45 ، 46 ] . فأخبر الله تعالى أن الحمل يخلق من ماء يخرج من بين أصلاب الرجال وترائب النساء ، فعلم بالحمل وجود الإنزال منها .

                                                                                                                                            فأما الخنثى المشكل فيكون بالغا بالسن ، فأما الحيض ، والإنزال فله ثلاثة أحوال :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يحيض .

                                                                                                                                            والثاني : أن ينزل .

                                                                                                                                            والثالث : أن يجمع الأمرين الحيض والإنزال . فأما الحيض وحده فلا يكون بلوغا فيه بحال ، سواء خرج دم الحيض من فرجه ، أو ذكره أو منهما ، وأما الإنزال وحده ، فإن كان من ذكره لم يكن بلوغا لجواز كونه امرأة ، وإن كان من فرجه لم يكن بلوغا لجواز كونه رجلا : وإن كان من فرجه وذكره معا كان بلوغا يقينا : لأنه إن كان رجلا فقد بلغ بالإنزال من ذكره ، وإن كان امرأة فقد بلغت بالإنزال من فرجها ، وأما الإنزال والحيض إذا اجتمعا فإن كانا معا من فرجه لم يكن بلوغا ، وإن كانا معا من ذكره لم يكن بلوغا ، وإن كان الإنزال من ذكره ، ودم الحيض من فرجه فمذهب الشافعي أنه بلوغ لجمع بين بلوغ الرجال والنساء . وقال الشافعي في كتاب " الأم " : " إن أنزل وحاض لم يكن بلوغا " . وليس هذا قولا ثانيا ، وإنما له أحد تأويلين : إما أن يكون قال : أنزل أو حاض ، فأسقط الكاتب ألفا وإن كانا معا من أحد الفرجين .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية