الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
( الخامسة ) : كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يأتون بالمعجزات الباهرة ، والآيات الظاهرة ، لأقوامهم الكافرة ، وأممهم الفاجرة ، فكان كل نبي تقع معجزته مناسبة لحال قومه ، كما كان السحر فاشيا عند فرعون ، فجاء موسى بالعصا على صورة ما يصنع السحرة ، لكنها تلقفت ما صنعوا فبسوا وانصدعوا ، واحتاروا وانقمعوا ، وعلموا أن ما جاء به موسى هو الحق اليقين ( فألقي [ ص: 178 ] السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون ) .

ولم يقع ذلك بعينه لغير موسى من الأنبياء - عليهم السلام - . ولما كان الزمن الذي بعث فيه عيسى - عليه السلام - قد فشا الأطباء والحكماء بين الأنام ، وكان أمرهم في غاية الظهور ، والاعتناء بصناعتهم ظاهرا مشهورا ، جاء سيدنا المسيح بإحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص من الداء العضال القبيح ، وخلق من الطين كهيئة الطير بإذن الله ، فطاشت قلوب الحكماء ، وأذعنوا أنه من عند الله .

ولما كانت العرب أرباب البلاغة ، وجراثيم الفصاحة ، ورأس البيان ، وأرومة الوضاحة وفرسان الكلام ، وأرباب النظام ، قد خصوا من البلاغة والحكم ما لم يختص به غيرهم من سائر الأمم ، قد أوتوا من ذرابة اللسان ما لم يؤت مثله إنسان .

ومن فصل الخطاب ما قد يقيد الألباب ، جعل الله تعالى لهم ذلك طبعا وسليقة وفيهم غريزة وحقيقة ، يأتون منه على البديهة بالعجب العجاب ، ويدلون به إلى كل سبب من الأسباب ، فيخطبون بهدية في المقامات الشديدة الخطب ويرتجزون به في قساطل الحرب بين الطعن والضرب ، ويمدحون ويقدحون ، ويتوسلون ويتوصلون ، ويبتدون ويتنصلون ، ويرفعون ويضعون ، فيأتون من ذلك بالسحر الحلال ، ويطوقون من أوصافهم ما هو أجمل من سمط اللآل ، فيخدعون الألباب ، ويذللون الصعاب ، ويذهبون الأحن ، ويهيجون الدمن ، ويجرئون الجنان ، ويبسطون من يد الجعد البنان ، ويصيرون الناقص كاملا ، ويتركون النبيه خاملا ، منهم البدوي ذو اللفظ الجزل ، والقول الفصل ، والكلام الفخم ، والطبع الجوهري ، والمنزع القوي ، ومنهم الحضري ذو البلاغة البارعة ، والألفاظ الناصعة ، والكلمات الجامعة ، والطبع السهل ، والتصرف في القول ، القليل الكلفة الجامعة ، والطبع السهل ، والتصرف في القول ، القليل الكلفة الكثير الرونق الرقيق الحاشية ، وعلى كل حال لهم في البلاغة الحجة البالغة ، والقوة الدامغة ، لا يشك أن الكلام طوع مرادهم ، والبلاغة ملك قيادهم ، فما راعهم إلا والرسول الكريم قد أتي بهذا الكتاب العزيز العظيم ، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ، ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ، قد أحكمت آياته ، وفصلت كلماته ، وبهرت بلاغته العقول ، وظهرت فصاحته ، على كل مقول ، تضافر إيجازه وإعجازه ، وتظاهرت [ ص: 179 ] حقيقته ومجازه ، وهم أفسح ما كانوا في هذا الباب مجالا ، وأوسع في اللغة والغريب مقالا ، وبلغتهم التي بها يتحاورون ومنازعهم التي عنها يتناضلون ، صارخا بهم في كل حين ، ومقرعا لهم بعضا وعشرين من السنين ، وموبخا لهم على رؤوس ملئهم أجمعين ( أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ) .

فلم يزل النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرعهم أشد التقريع ، ويوبخهم غاية التوبيخ ، ويسفه أحلامهم ، ويشتت نظامهم ، ويذم آلهتهم وآباءهم ، ويستبيح أرضهم وأموالهم ونساءهم وأبناءهم ، وهم في كل ذلك ناكصون عن معارضته ، محجمون عن مماثلته ، يخادعون أنفسهم بالتشغيب بالتكذيب ، والاغتراء بالافتراء ، فيقولون تارة : هذا سحر مفترى ، وأخرى : أساطير الأولين ، وطورا يقولون إذا سمعوا : آيات الكتاب : قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه ، وفي آذاننا وقر ، ومن بيننا وبينك حجاب .

ومنهم من استحمق وهذى ، فقال : بضرب من الدعوى : لو نشاء لقلنا مثل هذا ، ومن تعاطى شيئا من سخفائهم ، بدعوى المعارضة افتضح وانكشف عواره وما نجح وظهر بواره

ولما سمع الوليد بن المغيرة من النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله تعالى إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى قال : والله ، إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وأن أسفله لمغدق ، وإن أعلاه لمثمر ، ما يقول هذا بشر .

وذكر أبو عبيد أن أعرابيا سمع رجلا يقرأ ( فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين ) فسجد فقيل له في ذلك فقال سجدت لفصاحته ، وسمع آخر رجلا يتلو ( فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا ) فقال أشهد أن مخلوقا لا يقدر على مثل هذا الكلام .

وذكر القاضي عياض في الشفاء أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه كان يوما نائما في المسجد ، إذا هو بقائم على رأسه يتشهد شهادة الحق ، فاستخبره ، فأعلمه أنه من بطارقة الروم ممن يحسن كلام العرب وغيرها ، وأنه سمع قوما من أسرى المسلمين يقرؤون آية من كتابكم ، فتأملتها فإذا هي قد جمع فيها ما أنزل على عيسى ابن مريم - عليه السلام - من أحوال الدنيا والآخرة ، وهي قوله تعالى : ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون .

وحكى [ ص: 180 ] الأصمعي أنه سمع كلام جارية ، فقال لها : قاتلك الله ما أفصحك ، فقالت : أو يعد هذا فصاحة بعد قول الله تعالى ( وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه ) الآية ، فجمع في آية واحدة بين أمرين ، ونهيين ، وخبرين ، وبشارتين . فهذا من أنواع إعجاز القرآن العظيم ، والذكر الحكيم ، وفوق كل ذي علم عليم : وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية