( الخامسة ) : كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يأتون الباهرة ، والآيات الظاهرة ، لأقوامهم الكافرة ، وأممهم الفاجرة ، فكان كل نبي تقع معجزته مناسبة لحال قومه ، كما كان السحر فاشيا عند فرعون ، فجاء بالمعجزات موسى بالعصا على صورة ما يصنع السحرة ، لكنها تلقفت ما صنعوا فبسوا وانصدعوا ، واحتاروا وانقمعوا ، وعلموا أن ما جاء به موسى هو الحق اليقين ( فألقي [ ص: 178 ] السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون ) .
ولم يقع ذلك بعينه لغير موسى من الأنبياء - عليهم السلام - . ولما كان الزمن الذي بعث فيه عيسى - عليه السلام - قد فشا الأطباء والحكماء بين الأنام ، وكان أمرهم في غاية الظهور ، والاعتناء بصناعتهم ظاهرا مشهورا ، جاء سيدنا المسيح بإحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص من الداء العضال القبيح ، وخلق من الطين كهيئة الطير بإذن الله ، فطاشت قلوب الحكماء ، وأذعنوا أنه من عند الله .
ولما كانت العرب أرباب البلاغة ، وجراثيم الفصاحة ، ورأس البيان ، وأرومة الوضاحة وفرسان الكلام ، وأرباب النظام ، قد خصوا من البلاغة والحكم ما لم يختص به غيرهم من سائر الأمم ، قد أوتوا من ذرابة اللسان ما لم يؤت مثله إنسان .
ومن فصل الخطاب ما قد يقيد الألباب ، جعل الله تعالى لهم ذلك طبعا وسليقة وفيهم غريزة وحقيقة ، يأتون منه على البديهة بالعجب العجاب ، ويدلون به إلى كل سبب من الأسباب ، فيخطبون بهدية في المقامات الشديدة الخطب ويرتجزون به في قساطل الحرب بين الطعن والضرب ، ويمدحون ويقدحون ، ويتوسلون ويتوصلون ، ويبتدون ويتنصلون ، ويرفعون ويضعون ، فيأتون من ذلك بالسحر الحلال ، ويطوقون من أوصافهم ما هو أجمل من سمط اللآل ، فيخدعون الألباب ، ويذللون الصعاب ، ويذهبون الأحن ، ويهيجون الدمن ، ويجرئون الجنان ، ويبسطون من يد الجعد البنان ، ويصيرون الناقص كاملا ، ويتركون النبيه خاملا ، منهم البدوي ذو اللفظ الجزل ، والقول الفصل ، والكلام الفخم ، والطبع الجوهري ، والمنزع القوي ، ومنهم الحضري ذو البلاغة البارعة ، والألفاظ الناصعة ، والكلمات الجامعة ، والطبع السهل ، والتصرف في القول ، القليل الكلفة الجامعة ، والطبع السهل ، والتصرف في القول ، القليل الكلفة الكثير الرونق الرقيق الحاشية ، وعلى كل حال لهم في البلاغة الحجة البالغة ، والقوة الدامغة ، لا يشك أن الكلام طوع مرادهم ، والبلاغة ملك قيادهم ، فما راعهم إلا والرسول الكريم قد أتي بهذا الكتاب العزيز العظيم ، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ، ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ، قد أحكمت آياته ، وفصلت كلماته ، وبهرت بلاغته العقول ، وظهرت فصاحته ، على كل مقول ، تضافر إيجازه وإعجازه ، وتظاهرت [ ص: 179 ] حقيقته ومجازه ، وهم أفسح ما كانوا في هذا الباب مجالا ، وأوسع في اللغة والغريب مقالا ، وبلغتهم التي بها يتحاورون ومنازعهم التي عنها يتناضلون ، صارخا بهم في كل حين ، ومقرعا لهم بعضا وعشرين من السنين ، وموبخا لهم على رؤوس ملئهم أجمعين ( أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ) .
فلم يزل النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرعهم أشد التقريع ، ويوبخهم غاية التوبيخ ، ويسفه أحلامهم ، ويشتت نظامهم ، ويذم آلهتهم وآباءهم ، ويستبيح أرضهم وأموالهم ونساءهم وأبناءهم ، وهم في كل ذلك ناكصون عن معارضته ، محجمون عن مماثلته ، يخادعون أنفسهم بالتشغيب بالتكذيب ، والاغتراء بالافتراء ، فيقولون تارة : هذا سحر مفترى ، وأخرى : أساطير الأولين ، وطورا يقولون إذا سمعوا : آيات الكتاب : قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه ، وفي آذاننا وقر ، ومن بيننا وبينك حجاب .
ومنهم من استحمق وهذى ، فقال : بضرب من الدعوى : لو نشاء لقلنا مثل هذا ، ومن تعاطى شيئا من سخفائهم ، بدعوى المعارضة افتضح وانكشف عواره وما نجح وظهر بواره
ولما سمع الوليد بن المغيرة من النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله تعالى إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى قال : والله ، إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وأن أسفله لمغدق ، وإن أعلاه لمثمر ، ما يقول هذا بشر .
وذكر أبو عبيد أن أعرابيا سمع رجلا يقرأ ( فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين ) فسجد فقيل له في ذلك فقال سجدت لفصاحته ، وسمع آخر رجلا يتلو ( فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا ) فقال أشهد أن مخلوقا لا يقدر على مثل هذا الكلام .
وذكر في الشفاء أن أمير المؤمنين القاضي عياض رضى الله عنه كان يوما نائما في المسجد ، إذا هو بقائم على رأسه يتشهد شهادة الحق ، فاستخبره ، فأعلمه أنه من بطارقة عمر بن الخطاب الروم ممن يحسن كلام العرب وغيرها ، وأنه سمع قوما من أسرى المسلمين يقرؤون آية من كتابكم ، فتأملتها فإذا هي قد جمع فيها ما أنزل على عيسى ابن مريم - عليه السلام - من أحوال الدنيا والآخرة ، وهي قوله تعالى : ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون .
وحكى [ ص: 180 ] أنه سمع كلام جارية ، فقال لها : قاتلك الله ما أفصحك ، فقالت : أو يعد هذا فصاحة بعد قول الله تعالى ( الأصمعي وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه ) الآية ، فجمع في آية واحدة بين أمرين ، ونهيين ، وخبرين ، وبشارتين . فهذا من ، والذكر الحكيم ، وفوق كل ذي علم عليم : وبالله التوفيق . أنواع إعجاز القرآن العظيم