الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ( التنبيه الثاني ) ) تقدم أن الصحيح المعتمد وجوب التوبة حتى من الصغائر كالكبائر ، وقيل : لا تجب من الصغائر توبة ; لأنها تقع مكفرة باجتناب الكبائر ؛ لقوله - تعالى - : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما قال الحافظ ابن رجب : أوجب أصحابنا وغيرهم من الفقهاء والمتكلمين وغيرهم التوبة من الصغائر كالكبائر ، وقد أمر الله - سبحانه - عقيب ذكر الصغائر والكبائر بالتوبة في قوله - تعالى - : قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن إلى قوله : وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون الآية ، وأمر بالتوبة من الصغائر بخصوصها بقوله - تعالى - : ياأيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم إلى قوله : ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون قال الحافظ : ومن الناس من لا يوجب التوبة من الصغائر ، وحكي عن طائفة من المعتزلة . ومن المتأخرين من أوجب أحد أمرين ، إما التوبة منها أو الإتيان ببعض المكفرات للذنوب من الحسنات . وحكى ابن عطية في تفسيره في تكفير الصغائر بامتثال الفرائض واجتناب الكبائر قولين : أحدهما : وحكاه عن جماعة من الفقهاء وأهل الحديث أنه يقطع بتكفيرها بذلك قطعا لظاهر الآية والحديث ، وحكى عن الأصوليين أنه لا يقطع [ ص: 381 ] بتكفيرها ، بل يحمل على غلبة الظن وقوة الرجاء ، وهو في مشيئة الله - تعالى - ، إذ لو قطع بتكفيرها لكانت الصغائر في حكم المباح الذي لا تبعة فيه ، وذلك نقض لعرى الشريعة .

قال الحافظ : لا يقطع بتكفيرها ; لأن أحاديث التكفير المطلقة بالأعمال جاءت مقيدة بتحسين العمل ، كما ورد ذلك في الوضوء ، والصلاة ، وحينئذ فلا يتحقق وجود حسن العمل الذي يوجب التكفير ، وعلى هذا الاختلاف ينبني وجوب التوبة من الصغائر ، وقد روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال : لا صغيرة مع إصرار ولا كبيرة مع استغفار . وروي مرفوعا من وجوه ضعيفة ، وإذا صارت الصغائر كبائر بالمداومة عليها فلا بد للمحسنين من اجتناب المداومة على الصغائر ; حتى يكونوا مجتنبين لكبائر الإثم والفواحش ، وقد قال - تعالى - : وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله فهذه الآيات تضمنت وصف المؤمنين بقيامهم بما أوجب الله عليهم من الإيمان ، والتوكل ، وإقام الصلاة ، والإنفاق مما رزقهم الله ، والاستجابة لله في جميع طاعاته ، ومع هذا هم مجتنبون كبائر الإثم والفواحش ، فهذا تحقق التقوى ، ووصفهم في معاملتهم للخلق بالمغفرة عند الغضب ، وندبهم إلى العفو ، والإصلاح . وأما قوله - تعالى - : والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون فليس منافيا للعفو ، فإن الانتصار يكون بإظهار القدرة على الانتقام ، ثم يقع العفو بعد ذلك ، فيكون أتم وأكمل ، قال النخعي : في هذه الآية كانوا يكرهون أن يستذلوا ، فإذا قدروا عفوا ، وقال مجاهد : كانوا يكرهون للمؤمن أن يذل نفسه فيجترئ عليه الفساق ، فالمؤمن إذا بغي عليه يظهر القدرة على الانتقام ، ثم يعفو بعد ذلك ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية