الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
( الثالث ) ذكر الإمام أبو العباس عماد الدين أحمد بن إبراهيم الواسطي الصوفي المحقق العارف ، تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله سرهما ، الذي قال فيه شيخ الإسلام : إنه جنيد زمانه - في رسالته نصيحة الإخوان ما حاصله في مسألة العلو والفوقية والاستواء ، هو أن الله عز وجل كان ولا مكان ، ولا عرش ، ولا ماء ، ولا فضاء ، ولا هواء ، ولا خلاء ، ولا ملأ ، وإنه كان منفردا في قدمه وأزليته ، متوحدا في فردانيته ، لا يوصف بأنه فوق كذا إذا لا شيء غيره ، هو تعالى سبق التحت والفوق اللذين هما جهتا العالم ، وهو لا زمان له تعالى ، هو تعالى في تلك الفردانية منزه عن لوازم الحدث وصفاته ، فلما اقتضت الإرادة المقدسة خلق الأكوان وجعل جهتي العلو والسفل ، واقتضت الحكمة الإلهية أن يكون الكون في جهة التحت لكونه مربوبا مخلوقا ، واقتضت العظمة الربانية أن يكون هو تعالى فوق الكون باعتبار الكون لا باعتبار فردانيته ، إذا لا فوق فيها ولا تحت ، والرب سبحانه وتعالى كما كان في قدمه وأزليته وفردانيته لم يحدث له في ذاته ، ولا في صفاته ما لم يكن له في قدمه وأزليته فهو الآن كما كان ، لما أحدث المربوب المخلوق ذا الجهات والحدود ، والخلا والملا ، ذا الفوقية والتحتية ، كان مقتضى حكم العظمة الربوية أن يكون فوق ملكه ، وأن تكون المملكة تحته باعتبار الحدوث من الكون لا باعتبار القدم من المكون ، فإذا أشير إليه بشيء يستحيل أن يشار من جهة التحتية أو من جهة اليمنة أو من جهة اليسرة بل لا يليق أن يشار إليه إلا من جهة العلو والفوقية ، ثم الإشارة هي بحسب الكون وحدوثه وأسفله فالإشارة تقع على أعلى جزء من الكون حقيقة ، وتقع على عظمة الله تعالى كما يليق به لا كما يقع على الحقيقة المحسوسة عندنا في أعلى جزء من الكون فإنها إشارة إلى جسم وتلك [ ص: 211 ] إشارة إلى إثبات .

إذا علم ذلك فالاستواء صفة كانت له سبحانه وتعالى في قدمه لكن لم يظهر حكمها إلا بعد خلق العرش ، كما أن الحساب صفة قديمة لا يظهر حكمها إلا في الآخرة . وكذلك التجلي في الآخرة لا يظهر حكمه إلا في محله ، قال : فإذا علم ذلك فالأمر الذي تهرب المتأولة منه حيث أولوا الفوقية بفوقية المرتبة ، والاستواء بالاستيلاء فنحن أشد الناس هربا من ذلك ، وتنزيها للباري تعالى عن الحد الذي يحصره فلا يحد بحد يحصره بل بحد تتميز به عظمة ذاته عن مخلوقاته ، والإشارة إلى الجهة إنما هو بحسب الكون وأسفله إذ لا يمكن الإشارة إليه إلا هكذا ، وهو في قدسه سبحانه منزه عن صفاته لا يمكنه معرفة بارئه إلا من فوقه ، فتقع الإشارة إلى العرش حقيقة إشارة معقولة ، وتنتهي الجهات عند العرش ، ويبقى ما وراءه لا يدركه العقل ، ولا يكيفه الوهم ، فتقع الإشارة عليه كما يليق به مجملا مثبتا لا مكيفا ممثلا .

( قال ) فإذا علمنا ذلك واعتقدناه تخلصنا من شبهة التأويل وعماوة التعطيل وحماقة التشبيه والتمثيل ، وأثبتنا علو ربنا ، وفوقيته واستواءه على عرشه كما يليق بجلاله وعظمته ، والحق واضح في ذلك ، والصدر ينشرح له فإن التحريف تأباه العقول الصحيحة ، مثل تحريف الاستواء بالاستيلاء وغيره ، والوقوف في ذلك جهل وغي مع كون الرب وصف نفسه بهذه الصفات لنعرفه بها فوقوفنا عن إثباتها ونفيها عدول عن المقصود منه في تعريفنا إياها ، فما وصف لنا نفسه بها إلا لنثبت ما وصف به نفسه لنا ، ولا نقف في ذلك .

قال : وكذلك التشبيه والتمثيل حماقة وجهالة فمن وفقه الله للإثبات بلا تحريف ، ولا تكييف ، ولا وقوف فقد وقع على الأمر المطلوب منه إن شاء الله تعالى ، والله أعلم .

وذكر شيخ الإسلام في كتابه في العرش ما حاصله : اختلف في العرش ، هل هو كري كالأفلاك محيطا به ، وإما أن يكون فوقها وليس هو كريا ، فإن كان الأول فمن المعلوم باتفاق من يعلم أن الأفلاك مستديرة كرية الشكل أن الجهة العليا هي جهة المحيط ، هو المحدد ، وأن الجهة السفلى هي المركز وليس للأفلاك إلا جهتان العلو والسفل فقط . وأما الجهات الست [ ص: 212 ] فهي للحيوان ، وليس لها في نفسها صفة لازمة ، بل هي بحسب الإضافة فيكون يمين هذا ما يكون يسار هذا ، ويكون أمام هذا ما يكون خلف هذا ، ويكون فوق هذا ما يكون تحت هذا .

لكن جهة العلو والسفل للأفلاك لا تتغير فالمحيط هو العلو والمركز هو السفل مع أن وجه الأرض التي وضعها الله للأنام وأرساها بالجبال ، هو الذي عليه الناس والبهائم والشجر ، والنبات والجبال ، والأنهار الجارية ، فأما الناحية الأخرى من الأرض فالبحر محيط بها ، وليس هناك شيء من الآدميين ، وما يتبعهم ، ولو قدر أن هناك أحد لكان على ظهر الأرض ، ولم يكن من في هذه الجهة تحت من في هذه ، ولا من في هذه تحت من في هذه ،

كما أن الأفلاك محيطة بالمركز وليس أحد جانبي الفلك تحت الآخر ، ولا القطب الجنوبي ولا بالعكس ، وإن كان الشمالي هو الظاهر لنا فوق الأرض وارتفاعه بحسب بعد الناس عن خط الاستواء ، فما كان بعده عن خط الاستواء ثلاثين درجة مثلا كان ارتفاع القطب عنده ثلاثون درجة ، وهو الذي يسمى عرض البلد ، فإذا قدر أن العرش مستدير محيط بالمخلوقات كان هو أعلاها وسقفها ، وهو فوقها مطلقا فلا يتوجه إليه وإلى ما فوقه الإنسان إلا من العلو لا من جهاته الباقية أصلا ، ومن توجه إلى الفلك التاسع أو الثامن أو غيره من غير جهة العلو كان جاهلا باتفاق العقلاء ، فكيف بالتوجه إلى العرش أو إلى ما فوقه ؟ وغاية ما يقدر أن يكون كري الشكل ، والله تعالى محيط بالمخلوقات كلها إحاطة تليق بجلاله ، فإن السماوات السبع والأرض في يده أصغر من الحمصة في يد أحدنا ، قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : ما السماوات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم . وهذا الأثر وأمثاله معروفة في كتب الحديث .

قال شيخ الإسلام : ومن المعلوم أن الواحد منا ، ولله المثل الأعلى ، إذا كان عنده خردلة إن شاء قبضها فأحاطت بها قبضته ، وإن شاء لم يقبضها بل جعلها تحته فهو في الحالين مباين لها ، والعرش سواء كان هذا الفلك التاسع الذي هو الفلك الأطلس عند الفلاسفة ، ويسمونه الفلك الأعظم ، وفلك الأفلاك ، أو كان جسما محيطا بالفلك التاسع أو كان فوقه من جهة وجه الأرض غير محيط به ، فيجب [ ص: 213 ] على كل حال أن يعلم أن العالم العلوي والسفلي بالنسبة إلى الخلق في غاية الصغر ، كما قال الله تعالىوما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه ، وفي ذلك من الأحاديث ما سيأتي ذكر بعضها عند ذكر يديه تعالى .

وسواء قدر أن العرش محيط بالمخلوقات كإحاطة الكرة بما فيها ، أو قيل إنه فوقها وليس محيطا بها كوجه الأرض الذي نحن عليه بالنسبة إلى جوفها وكالقبة بالنسبة إلى ما تحتها أو غير ذلك ، فعلى التقدير يكون العرش فوق المخلوقات ، والخالق سبحانه وتعالى فوقه ، والعبد في توجهه إلى الله يقصد العلو دون التحت . ثم قال شيخ الإسلام في آخر كتاب العرش : قد تبين أنه سبحانه وتعالى أعظم وأكبر من أن تكون المخلوقات عنده بمنزلة داخل الفلك ، وأنها أصغر عنده من الحمصة أو الفلفلة ، ونحو ذلك في يد أحدنا ، فإذا كانت الحمصة أو الفلفلة بل الدرهم ، والدينار أو الكرة التي يلعب بها الصبيان ونحو ذلك في يد الإنسان أو تحته أو نحو ذلك ، هل يتصور عاقل إذا استشعر علو الإنسان على ذلك وإحاطته به أن يكون الإنسان كالفلك فالله تعالى وله المثل الأعلى أعظم من أن يظن ذلك به ، وإنما يظنه الذين لم يقدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه ، سبحانه وتعالى عما يشركون وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية