( الرابع )
الخبر إن طابق ما في الخارج فهو صدق ، وإن لم يطابق الواقع في الخارج فهو كذب ، ولا فرق في ذلك بين اعتقاد المطابقة مع الصدق ، أو عدمها مع الكذب ، وبين أن لا يعتقد شيئا ، أو يعتقد عدم المطابقة مع وجودها ، أو يعتقد وجودها مع عدمها . فإذا علم هذا علم أنه لا واسطة بين ، وهذا مذهب أهل الحق خلافا للجاحظ في زعمه أن المطابقة مع اعتقاد المطابقة صدق ، وغير المطابقة مع اعتقاد عدم المطابقة كذب ، وغيرهما واسطة لا صدق ولا كذب ، فيدخل في الواسطة أربعة أقسام ، فتصير الأقسام عنده ستة . ويكون الصدق والكذب في مستقبل كما يكونان في زمن ماض . وموردهما النسبة التي تضمنها الخبر بإيقاع المخبر . الصدق والكذب
ومن ما هو معلوم صدقه ، وهو أنواع : ( أحدها ) ما يكون علم صدقه ضروريا بنفس الخبر من غير نظر ، كالخبر الذي بلغت رواته حد التواتر لفظيا كان أو معنويا على الأصح . الخبر
( الثاني ) : ما يكون ضروريا بغير نفس الخبر ، بل لكونه موافقا للضروري ، وهو ما يكون متعلقه معلوما لكل أحد من غير كسب وتكرر نحو : الواحد نصف الاثنين .
( الثالث ) : ما يكون ضروريا ، كخبر الله - تعالى - وخبر رسوله - صلى الله عليه وسلم - وخبر كل الأمة ; لأن الإجماع حجة ، فكل واحد من هذه الثلاثة علم بالنظر والاستدلال .
( النوع الرابع ) : ما يكون غير ضروري وغير نظري ، ولكنه موافق للنظر ، وهو الخبر الذي علم متعلقه بالنظر ، كقولنا : العالم حادث .
ومن الخبر ما هو معلوم كذبه ، وهو أيضا أنواع :
( أحدها ) : ما علم خلافه بالضرورة ، كقول القائل : النار باردة .
( الثاني ) : ما علم خلافه بالاستدلال ، كقول الفيلسوف : العالم قديم .
( الثالث ) : أن يوهم أمرا باطلا من غير أن [ ص: 14 ] يقبل التأويل لمعارضته للدليل العقلي ، كما لو اختلق بعض الزنادقة حديثا كذبا على الله - تعالى - وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - يتحقق أنه كذب .
( الرابع ) : أن يدعي شخص الرسالة عن الله - عز وجل - بغير معجزة .
ومن الخبر أيضا ما هو محتمل للصدق والكذب : ( فالأول ) ما تقدمت أنواعه الضرورية من المتواتر ، وموافق الضروري ، ونظري ، كخبر الله - تعالى - ورسوله ، والإجماع ، وخبر من وافق أحدها ، أو ثبت به صدقه .
( الثاني ) من الخبر المعلوم كذبه : ما تقدمت أنواعه مما خالف ما علم صدقه .
( الثالث ) من الخبر ، وهو المحتمل الصدق والكذب ، فثلاثة أنواع :
( أحدها ) : كخبر العدل يترجح صدقه على كذبه ، ويتفاوت فيه الظن .
( الثاني ) : ما ظن كذبه ، كخبر الكذاب ، يترجح كذبه على صدقه ، وهو متفاوت أيضا .
و ( الثالث ) : ما شك فيه ، كخبر مجهول الحال ، ويستوي فيه الاحتمالان لعدم المرجح . ولا يلزم من عدم علم صدق الخبر كذبه .
من حيث هو الحكم بالنسبة لا بثبوتها ، فإذا قيل : زيد قائم ، فمدلوله الحكم بثبوت قيامه ، لا نفي ثبوت قيامه ، إذ لو كان الحكم بالنسبة ثبوت قيام زيد ، للزم منه أن لا يكون شيء من الخبر كذبا ، بل يكون كله صدقا . وخالف القرافي ، فقال : العرب لم تضع الخبر إلا للصدق ; لاتفاق اللغويين والنحويين على أن معنى قام زيد حصول القيام منه في الزمن الماضي ، واحتماله الكذب ليس من الوضع ، بل من جهة المتكلم . انتهى . ومدلول الخبر
قال الكوراني : التحقيق في هذا المقام هو أن الخبر - مثل : زيد قائم - إذا صدر عن المتكلم بالقصد يدل على الإيقاع ، وهو الحكم الذي صدر عن المتكلم ، ويدل أيضا على الوقوع ، فكل منهما يسمى حكما ، فاحتمال الصدق والكذب وصدق الخبر وكذبه في نفس الأمر ، إنما هو باعتبار الإيقاع ; لأنه المتصف بذلك لا الوقوع ، وأما باعتبار إفادة المخاطب فالحكم هو الوقوع ، لأنك إذا قلت : زيد قائم ، فإنما تفيد المخاطب وقوع القيام ، لا أنك أوقعت القيام على زيد ، فإنه لا يعد فائدة ، والله أعلم .