الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( ولو ) ذهبت الجارحة المعينة قبل أن يختار المجني عليه ، أخذها أو قطعها قاطع - بطل حق المجني عليه في القصاص لفوات محله ( وهل يجب ) الأرش على الجاني ؟ فالكلام فيه كالكلام فيما إذا قطع يدا صحيحة ، وهو على التفصيل الذي ذكرنا فيما تقدم أنها إن سقطت بآفة سماوية أو قطعت ظلما لا شيء عليه ، ولو قطعت بحق من قصاص أو سرقة فعليه أرش اليد المقطوعة ( وعند ) الشافعي - رحمه الله - : عليه الأرش في الوجهين ، والكلام فيه راجع إلى أصل ، وقد تقدم ذكره ، وهو أن موجب العمد القصاص عينا عندنا في النفس ، وما دونه ( وعنده ) أحدهما : غير عين في قول ، وفي قول القصاص عينا لكن مع حق العدول إلى المال ( وقد ) ذكرنا هذا الأصل بفروعه في بيان حكم الجناية على النفس إلا أنه إذا كان القطع بحق يجب الأرش ; لأنه قضى بالطرف حقا مستحقا عليه فصار كأنه قائم وتعذر استيفاء القصاص لعذر الخطأ وغيره على ما مر ذكره ، وإذا ثبت هذا في الصحيحة فنقول : حق المجني عليه كان متعلقا باليد المعينة بعينها ، وإنما ينتقل عنها إلى الأرش عند اختياره ، فإذا لم يختر حتى هلكت بقي حقه متعلقا باليد ، فإن قيل : أليس أنه كان مخيرا بين القصاص والأرش فإذا فات أحدهما تعين الآخر ؟ قيل : لا بل حقه كان في اليد على التعيين إلا أن له أن يعدل عنه إلى بدله عند الاختيار ، فإذا هلك قبل الاختيار بقي حقه في اليد ، فإذا هلكت فقد بطل محل الحق ، فبطل الحق أصلا ورأسا ، والله - تعالى - عز وجل - الموفق ( ولو كانت ) يد القاطع صحيحة وقت القطع ثم شلت بعده فلا حق للمقطوع في الأرش ; لأن حقه ثبت في اليد عينا بالقطع فلا ينتقل إلى الأرش بالنقصان ، كما إذا ذهب الكل بآفة سماوية أنه يسقط حقه أصلا ولا ينتقل إلى الأرش لما قلنا كذا هذا ، ولا قصاص إلا فيما يقطع من المفاصل مفصل الزند ، أو مفصل المرفق ، أو مفصل الكتف في اليد ، أو مفصل الكعب ، أو مفصل الركبة ، أو مفصل الورك في الرجل ، وما كان من غير المفاصل فلا قصاص فيه كما إذا قطع من الساعد أو العضد أو الساق أو الفخذ ; لأنه يمكن استيفاء المثل من المفاصل ، ولا يمكن من غيرها .

                                                                                                                                ( وليس ) في لحم الساعد والعضد والساق والفخذ ، ولا [ ص: 299 ] في الألية قصاص ، ولا في لحم الخدين ، ولحم الظهر ، والبطن ، ولا في جلدة الرأس ، وجلدة اليدين إذا قطعت لتعذر استيفاء المثل ، ولا في اللطمة ، والوكزة ، والوجأة ، والدقة لما قلنا ، ولا يؤخذ العدد بالعدد فيما دون النفس مما يجب على أحدهما فيه القصاص لو انفرد كالاثنين إذا قطعا يد رجل أو رجله أو إصبعه أو أذهبا سمعه أو بصره أو قلعا سنا له أو نحو ذلك من الجوارح التي على الواحد منهما فيها القصاص لو انفرد به فلا قصاص عليهما ، وعليهما الأرش نصفان .

                                                                                                                                وكذلك ما زاد على الثلاث من العدد فهو بمنزلة الاثنين ، ولا قصاص عليهم ، وعليهم الأرش على عددهم بالسواء ، وهذا عندنا ، وعند الشافعي يجب القصاص عليهم وإن كثروا ، كما في النفس ، واحتج بما روي أن رجلين شهدا بين يدي سيدنا علي رضي الله تعالى عنه على رجل بالسرقة فأمر بقطع يده ثم جاءا بآخر وقالا أوهمنا إنما السارق هذا يا أمير المؤمنين فقال سيدنا علي رضي الله تعالى عنه : لا أصدقكما على هذا ، وأغرمكما دية الأول ، ولو علمت أنكما تعمدتما لقطعت أيديكما ، فقد اعتقد سيدنا علي رضي الله تعالى عنه قطع اليدين بيد واحدة ، وإنما قال ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، ولم ينقل أنه أنكر عليه أحد منهم فيكون إجماعا ، ولأن اليد تابعة للنفس ثم الأنفس تقتل بنفس واحدة فكذا الأيدي تقطع بيد واحدة ; لأن حكم التبع حكم الأصل .

                                                                                                                                ( ولنا ) أن المماثلة فيما دون النفس معتبرة لما ذكرنا من الدلائل ، ولا مماثلة بين الأيدي ، ويد واحدة لا في الذات ، ولا في المنفعة ، ولا في الفعل ( أما ) في الذات فلا شك فيه ، لأنه لا مماثلة بين العدد بين الفرد من حيث الذات يحققه أنه لا تقطع الصحيحة بالشلاء ، والفائت هو المماثلة من حيث الوصف فقط ففوات المماثلة في الوصف لما منع جريان القصاص ففواتها في الذات أولى ( وأما ) في المنفعة فلأن من المنافع ما لا يتأتى إلا باليدين كالكتابة ، والخياطة ، ونحو ذلك .

                                                                                                                                وكذا منفعة اليدين أكثر من منفعة يد واحدة عادة ( وأما ) في الفعل فلأن الموجود من كل واحد منهما قطع بعض اليد كأنه وضع أحدهما السكين من جانب ، والآخر من جانب آخر ، والجزاء قطع كل واحد من كل واحد منهما ، وقطع كل اليد أكثر من قطع بعض اليد ، وانعدام المماثلة من وجه تكفي لجريان القصاص كيف وقد انعدمت من وجوه ؟ وأما قول سيدنا علي رضي الله عنه فلا حجة له فيه ، لأنه إنما قال ذلك على سبيل السياسة بدليل أنه أضاف القطع إلى نفسه ، وذا لا يكون إلا بطريق السياسة ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية