[ ص: 517 ] 206
ثم دخلت سنة ست ومائتين
ذكر
nindex.php?page=treesubj&link=33791ولاية nindex.php?page=showalam&ids=16445عبد الله بن طاهر الرقة
وفي هذه السنة ولى
nindex.php?page=showalam&ids=15128المأمون nindex.php?page=showalam&ids=16445عبد الله بن طاهر من
الرقة إلى
مصر ، وأمره بحرب
نصر بن شبث .
وكان سبب ذلك أن
nindex.php?page=showalam&ids=17335يحيى بن معاذ الذي كان
nindex.php?page=showalam&ids=15128المأمون ولاه الجزيرة مات في هذه السنة ، واستخلف ابنه
أحمد ، فاستعمل
nindex.php?page=showalam&ids=15128المأمون عبد الله مكانه ، فلما أراد توليته أحضره وقال له : يا
عبد الله ، أستخير الله - تعالى - منذ شهر وأكثر ، وأرجو أن يكون قد خار لي ، ورأيت الرجل يصف ابنه [ ليطريه ] لرأيه فيه ، ورأيتك فوق ما قال أبوك فيك ، وقد مات
يحيى ، واستخلف ابنه ، وليس بشيء ، وقد رأيت توليتك
مصر ، ومحاربة
نصر بن شبث .
فقال : السمع والطاعة ، وأرجو أن يجعل الله لأمير المؤمنين الخيرة وللمسلمين . فعقد له .
وقيل : كانت ولايته سنة خمس ومائتين ، ( وقيل : سبع ومائتين ) .
ولما سار استخلف على الشرطة
إسحاق بن إبراهيم بن الحسين بن مصعب ، وهو ابن عمه . ولما استعمله
nindex.php?page=showalam&ids=15128المأمون كتب إليه أبوه
طاهر كتابا جمع فيه كل ما يحتاج إليه الأمراء من الآداب والسياسة وغير ذلك ، وقد أثبت منه أحسنه لما فيه من الآداب والحث على مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم ، لأنه لا يستغني عنه أحد من ملك وسوقة ، وهو : بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد ، فعليك بتقوى الله وحده لا شريك له ، وخشيته ، ومراقبته - عز وجل -
[ ص: 518 ] ومزايلة سخطه ، وحفظ رعيتك في الليل والنهار ، والزم ما ألبسك من العافية بالذكر لمعادك ، وما أنت صائر إليه ، وموقوف عليه ، ومسئول عنه ، والعمل في ذلك كله بما يعصمك الله - عز وجل - وينجيك يوم القيامة من عقابه ، وأليم عذابه ، فإن الله - سبحانه وتعالى - قد أحسن إليك ، وأوجب عليك الرأفة بمن استرعاك أمرهم من عباده ، وألزمك العدل عليهم ، والقيام بحقه وحدوده فيهم ، والذب عنهم ، والدفع عن حريمهم وبيضتهم ، والحقن لدمائهم ، والأمن لسبيلهم ، وإدخال الراحة عليهم ، ومؤاخذك بما فرض عليك ، وموقفك عليه ، ومسائلك عنه ، ومثيبك عليه بما قدمت وأخرت ، ففرغ لذلك فهمك ، وعقلك ، ونظرك ، ولا يشغلك عنه شاغل ، وإنه رأس أمرك ، وملاك شأنك ، وأول ما يوفقك الله - عز وجل - به لرشدك .
وليكن أول ما تلزم نفسك ، وتنسب إليه أفعالك - المواظبة على ما افترض الله - عز وجل - عليك من الصلوات الخمس ، والجماعة عليها بالناس ، فأت بها في مواقيتها على سننها ، وفي إسباغ الوضوء لها ، وافتتاح ذكر الله - عز وجل - [ فيها ] ، وترتل في قراءتك ، وتمكن في ركوعك وسجودك وتشهدك ، وليصدق فيه رأيك ونيتك ، واحضض عليها جماعة من معك ، وتحت يدك ، وادأب عليها فإنها كما قال الله - عز وجل - :
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=45إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر .
ثم أتبع ذلك بالأخذ بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمثابرة على خلافته ، واقتفاء آثار السلف الصالح من بعده ، وإذا ورد عليك أمر فاستعن عليه باستخارة الله - عز وجل - وتقواه ، ولزوم ما أنزل الله - عز وجل - في كتابه من أمره ونهيه ، وحلاله وحرامه ، وإتمام ما جاءت به الآثار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قم فيه بما يحق لله - عز وجل -
[ ص: 519 ] عليك ، ولا تمل من العدل فيما أحببت أو كرهت لقريب من الناس ، أو بعيد .
وآثر الفقه وأهله والدين وحملته ، وكتاب الله - عز وجل - والعاملين به ، فإن أفضل ما تزين به المرء الفقه في الدين ، والطلب له ، والحث عليه ، والمعرفة بما يتقرب به إلى الله - عز وجل - فإنه الدليل على الخير كله ، والقائد له ، والآمر به ، والناهي عن المعاصي والموبقات كلها ، ومع توفيق الله - عز وجل - يزداد العبد معرفة لله - عز وجل - وإجلالا له ، ذكرا للدرجات العلى في المعاد مع ما في ظهوره للناس من التوقير لأمرك ، والهيبة لسلطانك ، والأنسة بك ، والثقة بعدلك .
وعليك بالاقتصاد في الأمور كلها ، فليس شيء أبين نفعا ، ولا أخص أمنا ، ولا أجمع فضلا منه ، والقصد داعية إلى الرشد ، والرشد دليل على التوفيق ، والتوفيق قائد إلى السعادة ، وقوام الدين والسنن الهادية بالاقتصاد ، وآثره في دنياك كلها ، ولا تقصر في طلب الآخرة ، والأجر ، والأعمال الصالحة ، والسنن المعروفة ، ومعالم الرشد ، ولا غاية للاستكثار في البر والسعي له إذا كان يطلب به وجه الله - تعالى - ومرضاته ومرافقة أوليائه في دار كرامته .
واعلم أن القصد في شأن الدنيا يورث العز ، ويحصن من الذنوب ، وأنه لن تحوط لنفسك ومن يليك ولا تستصلح أمورك بأفضل منه ، فأته واهتد به تتم أمورك ، وتزد مقدرتك ، وتصلح خاصتك وعامتك .
وأحسن الظن بالله - عز وجل - تستقم لك رعيتك ، والتمس الوسيلة إليه في الأمور كلها تستدم به النعمة عليك .
ولا تتهمن أحدا من الناس فيما توليه من عملك ، قبل أن تكشف أمره ، فإن إيقاع التهم بالبراء والظنون السيئة بهم مأثم ، فاجعل من شأنك حسن الظن بأصحابك ، واطرد
[ ص: 520 ] عنك سوء الظن بهم ، وارفضه فيهم يعنك ذلك على اصطناعهم ورياضتهم ، ولا يجدن عدو الله الشيطان في أمرك مغمزا ، فإنه إنما يكتفي بالقليل من وهنك ، ويدخل عليك من الغم في سوء الظن ما ينغصك لذاذة عيشك .
واعلم أنك تجد بحسن الظن قوة وراحة ، وتكتفي به ما أحببت كفايته من أمورك ، وتدعو به الناس إلى محبتك والاستقامة في الأمور كلها لك ، ولايمنعنك حسن الظن بأصحابك ، والرأفة برعيتك ، أن تستعمل المسألة والبحث عن أمورك ، ولتكن المباشرة لأمور الأولياء ، والحياطة للرعية ، والنظر فيما يقيمها ويصلحها ، والنظر في حوائجهم ، وحمل مئوناتهم - آثر عندك مما سوى ذلك ، فإنه أقوم للدين ، وأحيا للسنة .
وأخلص نيتك في جميع هذا ، وتفرد بتقويم نفسك تفرد من يعلم أنه مسئول عما صنع ، ومجزي بما أحسن ، ومأخوذ بما أساء ، فإن الله - عز وجل - جعل الدين حرزا وعزا ، ورفع من اتبعه وعززه ، فاسلك بمن تسوسه وترعاه نهج الدين ، وطريقة الهدى .
وأقم حدود الله - عز وجل - في أصحاب الجرائم على قدر منازلهم ، وما استحقوه ، ولا تعطل ذلك ، ولا تهاون به ، ولا تؤخر عقوبة أهل العقوبة ، فإن في تفريطك في ذلك ما يفسد عليك حسن ظنك ، واعتزم على أمرك في ذلك بالسنن المعروفة ، وجانب البدع والشبهات يسلم لك دينك ، وتقم لك مروءتك .
وإذا عاهدت عهدا فف به ، وإذا وعدت خيرا فأنجزه ، واقبل الحسنة وادفع بها ، وأغمض عن عيب كل ذي عيب من رعيتك ، واشدد لسانك عن قول الكذب والزور ، وأبغض أهله ، وأقص أهل النميمة ، فإن أول فساد أمورك ، في عاجلها وآجلها - تقريب الكذوب ، والجرأة على الكذب ; لأن الكذب رأس المآثم ، والزور والنميمة خاتمتها ; لأن النميمة لا يسلم صاحبها وقائلها ، ولا يسلم له صاحب ، ولا يستتم لمعطيها أمر .
وأحب أهل الصلاح والصدق ، وأعن الأشراف بالحق ، وآس الضعفاء ، وصل
[ ص: 521 ] الرحم ، وابتغ بذلك وجه الله - تعالى - وإعزاز أمره ، والتمس فيه ثوابه والدار الآخرة ، واجتنب سوء الأهواء والجور ، واصرف عنهما رأيك ، وأظهر براءتك من ذلك لرعيتك ، وأنعم بالعدل سياستهم ، وقم بالحق فيهم وبالمعرفة التي تنتهي بك إلى سبيل الهدى .
واملك نفسك عند الغضب ، وآثر الوقار والحلم ، وإياك والحدة والطيرة والغرور فيما أنت بسبيله ، وإياك أن تقول : أنا مسلط أفعل ما أشاء ، فإن ذلك سريع [ فيك ] إلى نقص الرأي وقلة اليقين بالله - عز وجل - .
وأخلص لله وحده لا شريك له - النية فيه ، واليقين به ، واعلم أن الملك لله - سبحانه وتعالى - يؤتيه من يشاء ، وينزعه ممن يشاء ، ولن تجد تغير النعمة وحلول النقمة إلى أحد أسرع منه إلى حملة النعمة من أصحاب السلطان والمبسوط لهم في الدولة ، إذا كفروا نعم الله - عز وجل - وإحسانه ، واستطالوا بما آتاهم الله - عز وجل - من فضله .
ودع عنك نفسك ، ولتكن ذخائرك وكنوزك التي تدخر وتكنز - البر ، والتقوى ، والمعدلة ، واستصلاح الرعية ، وعمارة بلادهم ، والتفقد لأمورهم ، والحفظ لدمائهم ، والإغاثة لملهوفهم ، واعلم أن الأموال إذا كنزت وذخرت في الخزائن - لا تنمو ، وإذا كانت في صلاح الرعية ، وإعطاء حقوقهم ، وكف مئونة عنهم - سمت ، وزكت ، ونمت ، وصلحت به العامة ، وتزينت به الولاية ، وطاب به الزمان ، واعتقد فيه العز والمنعة ، فليكن كنز خزائنك تفريق الأموال في عمارة الإسلام وأهله ، ووفر منه على أولياء أمير المؤمنين ، فتلك حقوقهم ، وأوف رعيتك من ذلك حصصهم ، وتعهد ما يصلح أمورهم ومعاشهم ، فإنك إذا فعلت ذلك قرت النعمة عليك ، واستوجبت المزيد من الله - عز وجل - وكنت بذلك على جباية خراجك ، وجمع أموال رعيتك ، وعملك - أقدر ، وكان الجميع لما شملهم من عدلك وإحسانك أسلس لطاعتك ، وأطيب نفسا بكل ما أردت ، واجهد نفسك فيما حددت لك في هذا الباب ، ولتعظم حسنتك فيه ، وإنما يبقى من المال ما أنفق في سبيل الله ، واعرف للشاكرين شكرهم ، وأثبهم عليه .
وإياك أن تنسيك الدنيا وغرورها هول الآخرة ، فتتهاون بما يحق عليك ، فإن
[ ص: 522 ] التهاون يورث التفريط ، والتفريط يورث البوار ، وليكن عملك لله - عز وجل - وارج الثواب فيه ، فإن الله - سبحانه - قد أسبغ عليك نعمته ، وأسبغ لديك فضله ، واعتصم بالشكر ، وعليه فاعتمد ، يزدك الله خيرا وإحسانا ، فإن الله - عز وجل - يثبت شكر الشاكرين وسيرة المحسنين .
ولا تحقرن دينا ، ولا تمالئن حاسدا ، ولا ترحمن فاجرا ، ولا تصلن كفورا ، ولا تداهنن عدوا ، ولا تصدقن نماما ، ولا تأمنن غدارا ، ولا توالين فاسقا ، ولا تتبعن غاويا ، ولا تحمدن مرائيا ، ولا تحقرن إنسانا ، ولا تردن سائلا فقيرا ، ولا تجيبن باطلا ، ولا تلاحظن مضحكا ، ولا تخلفن وعدا ، ولا ترهبن فجرا ، ولا تركبن سفها ، ولا تظهرن غضبا ، ولا تمشين مرحا ، ولا تفرطن في طلب الآخرة ، ولا تدفع الأيام عتابا ، ولا تغمضن عن ظالم رهبة منه ، أو محاباة ، ولا تطلبن ثواب الآخرة في الدنيا .
وأكثر مشاورة الفقهاء ، واستعمل نفسك بالحلم ، وخذ عن أهل التجارب وذوي العقل ، والرأي ، والحكمة ، ولا تدخلن في مشورتك أهل الذمة والنحل ، ولا تسمعن لهم قولا ، فإن ضررهم أكثر من منفعتهم ، وليس شيء أسرع فسادا لما استقبلت فيه أمر رعيتك من الشح ، واعلم أنك إذا كنت حريصا كنت كثير الأخذ ، قليل العطية ، وإذا كنت كذلك لم يستقم لك أمرك إلا قليلا ، فإن رعيتك إنما تعقد على محبتك بالكف عن أموالهم ، وترك الجور عليهم ، ويدوم صفاء أوليائك بالإفضال عليهم ، وحسن العطية لهم ، واجتنب الشح ، واعلم أنه أول ما عصى الإنسان به ربه ، وأن العاصي بمنزلة خزي ، وهو قول الله - عز وجل - :
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=9ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون .
واجعل للمسلمين كلهم من نيتك حظا ونصيبا ، وأيقن أن الجود من أفضل أعمال العباد ، فاعدد لنفسك خلقا ، وسهل طريق الجود بالحق ، وارض به عملا ومذهبا ، وتفقد أمور الجند في دواوينهم ، ومكاتبهم ، وادرر عليهم أرزاقهم ، ووسع عليهم في معايشهم -
[ ص: 523 ] يذهب الله - عز وجل - بذلك فاقتهم ، فيقوى لك أمرهم ، وتزيد به قلوبهم في طاعتك في أمرك خلوصا وانشراحا .
وحسب ذي السلطان من السعادة أن يكون على جنده ورعيته رحمة في عدله ، وحيطته وإنصافه ، وعنايته وشفقته ، وبره وتوسيعه ، فزايل مكروه إحدى البليتين باستشعار فضيلة الباب الآخر ، ولزوم العمل به - تلق - إن شاء الله تعالى - نجاحا وصلاحا وفلاحا .
واعلم أن القضاء [ بالعدل ] من الله - تعالى - بالمكان الذي ليس [ يعدل ] به شيء من الأمور ; لأنه ميزان الله الذي يعدل عليه أحوال الناس في الأرض ، وبإقامة العدل في القضاء ، والعمل - تصلح أحوال الرعية ، وتأمن السبل ، وينتصف المظلوم ، ويأخذ الناس حقوقهم ، وتحسن المعيشة ، ويؤدى حق الطاعة ، ويرزق الله العافية والسلامة ، ويقوم الدين ، وتجري السنن والشرائع على مجاريها .
واشتد في أمر الله - عز وجل - وتورع عن النطف ، وامض لإقامة الحدود ، وأقلل العجلة ، وابعد عن الضجر والقلق ، واقنع بالقسم ، وانتفع بتجربتك ، وانتبه في صمتك ، واسدد في منطقك ، وأنصف الخصم ، وقف عند الشبهة ، وأبلغ في الحجة ، ولا يأخذك في أحد من رعيتك محاباة ولا محاماة ، ولا لوم لائم ، وتثبت ، وتأن ، وراقب ، وانظر ( الحق على نفسك ) ، فتدبر ، وتفكر ، واعتبر ، وتواضع لربك ، وارؤف بجميع الرعية ، وسلط الحق على نفسك .
ولا تسرعن إلى سفك دم ، فإن الدماء من الله - عز وجل - بمكان عظيم ، انتهاكا لها بغير حقها ، وانظر هذا الخراج الذي استقامت عليه الرعية ، وجعله الله للإسلام عزا ورفعة ، ولأهله توسعة ومنعة ، ولعدوه وعدوهم كبتا وغيظا ، ولأهل الكفر من معانديهم ذلا وصغارا - فوزعه بين أصحابك بالحق والعدل ، والتسوية والعموم فيه ، ولا ترفعن منه
[ ص: 524 ] شيئا عن شريف لشرفه ، ولا عن غني لغناه ، ولا عن كاتب ، ولا عن أحد من خاصتك وحاشيتك ، ولا تأخذن منه فوق الاحتمال له ، ولا تكلف أمرا فيه شطط ، واحمل الناس كلهم على مر الحق ، فإن ذلك أجمع لألفتهم ، وألزم لرضاء العامة .
واعلم أنك جعلت بولايتك خازنا ، وحافظا ، وراعيا ، وإنما سمي أهل عملك رعيتك لأنك راعيهم وقيمهم ، تأخذ منهم ما أعطوك من عفوهم ومقدرتهم ، وتنفقه في قوام أمرهم وصلاحهم ، وتقويم أودهم ، فاستعمل عليهم ذوي الرأي والتدبير ، والتجربة والخبرة بالعمل ، والعلم بالسياسة والعفاف ، ووسع عليهم في الرزق ، فإن ذلك من الحقوق اللازمة لك فيما تقلدت وأسند إليك ، ولا يشغلك عنه شاغل ، ولا يصرفك عنه صارف ، فإنك متى آثرته وقمت فيه بالواجب ، استدعيت به زيادة النعمة من ربك ، وحسن الأحدوثة في عملك ، واحترزت به المحبة من رعيتك ، وأعنت على الصلاح ، وقدرت الخيرات في بلدك ، وفشت العمارة بناحيتك ، وظهر الخصب في كورك ، وكثر خراجك ، وتوفرت أكوارك ، وقويت بذلك على ارتباط جندك ، وإرضاء العامة ، بإفاضة العطاء فيهم من نفسك ، وكنت محمود السياسة ، مرضي العدل في ذلك عند عدوك ، وكنت في أمورك كلها ذا عدل ، وآلة ، وقوة ، وعدة ، فنافس في ذلك ولا تقدم عليه شيئا تحمد مغبة أمرك - إن شاء الله تعالى - .
واجعل في كل كورة من عملك أمينا يخبرك أخبار عمالك ، ويكتب إليك بسيرتهم وأعمالهم ، حتى كأنك مع كل عامل في عمله معاين لأموره كلها ، فإن أردت أن تأمرهم بأمر فانظر في عواقب ما أردت من ذلك ، فإن رأيت السلامة فيه والعافية ، ورجوت فيه حسن الدفاع والصنع - فأمضه ، وإلا فتوقف عنه ، وراجع أهل البصر والعلم به ، ثم خذ فيه عدته ، فإنه ربما نظر الرجل في أمر من أموره قد واتاه على ما يهوى ، فأغواه ذلك وأعجبه ، فإن لم ينظر في عواقبه أهلكه ، ونقض عليه أمره ، فاستعمل الحزم في كل ما أردت ، وباشره بعد عون الله - عز وجل - بالقوة ، وأكثر استخارة ربك في جميع أمورك ، وافرغ من عمل يومك ، ولا تؤخره لغدك ، وأكثر مباشرته بنفسك ، فإن لغد أمورا وحوادث تلهيك عن عمل يومك الذي أخرت .
واعلم أن اليوم إذا مضى ذهب بما فيه ، وإذا أخرت عمله اجتمع عليك أمور
[ ص: 525 ] يومين فيشغلك ذلك ، حتى تعرض عنه ، وإذا أمضيت لكل يوم عمله ، أرحت نفسك وبدنك ، وأحكمت أمور سلطانك .
وانظر أحرار الناس وذوي السن منهم ممن تستيقن صفاء طويتهم ، وشهدت مودتهم لك ، ومظاهرتهم بالنصح والمخالصة على أمرك - فاستخلصهم وأحسن إليهم .
وتعاهد أهل البيوتات ممن قد دخلت عليهم الحاجة ، فاحتمل مئونتهم ، وأصلح حالهم حتى لا يجدوا لخلتهم مسا ، وأفرد نفسك بالنظر في أمور الفقراء والمساكين ، ومن لا يقدر على رفع مظلمة إليك ، والمحتقر الذي لا علم له بطلب حقه ، فسل عنه أحفى مسألة ، ووكل بأمثاله أهل الصلاح من رعيتك ، ومرهم برفع حوائجهم وحالاتهم إليك لتنظر فيها بما يصلح الله به أمرهم .
وتعاهد ذوي البأساء وأيتامهم ، وأراملهم ، واجعل لهم أرزاقا من بيت المال اقتداء بأمير المؤمنين - أعزه الله - في العطف عليهم ، والصلة لهم ، ليصلح الله بذلك عيشهم ، ويرزقك به بركة وزيادة ، وأجر للأضراب من بيت المال ، وقدم حملة القرآن منهم ، والحافظين لأكثره في الجرائد على غيرهم ، وانصب لمرضى المسلمين دورا تؤويهم ، وقواما يرفقون بهم ، وأطباء يعالجون أسقامهم ، وأسعفهم بشهواتهم ما لم يؤد ذلك إلى سرف في بيت المال .
واعلم أن الناس إذا أعطوا حقوقهم وأفضل أمانيهم - لم يرضهم ذلك ، ولم تطب أنفسهم دون رفع حوائجهم إلى ولاتهم ، طمعا في نيل الزيادة ، وفضل الرفق منهم ، وربما تبرم المتصفح لأمور الناس لكثرة ما يرد عليه ، ويشغل فكره وذهنه منها ما يناله به من مئونة ومشقة ، وليس من يرغب في العدل ، ويعرف محاسن أموره في العاجل وفضل ثواب الآجل - كالذي يستثقل بما يقربه إلى الله - تعالى - ويلتمس رحمته .
وأكثر الإذن للناس عليك ، وأبرز لهم وجهك ، وسكن لهم حواسك ، واخفض
[ ص: 526 ] لهم جناحك ، وأظهر لهم بشرك ، ولن لهم في المسألة والمنطق ، واعطف عليهم بجودك وفضلك .
وإذا أعطيت فأعط بسماحة وطيب نفس ، والتماس للصنيعة والأجر من غير تكدير ولا امتنان ، فإن العطية على ذلك تجارة مربحة - إن شاء الله تعالى - .
واعتبر بما ترى من أمور الدنيا ، ومن مضى من أهل السلطان والرئاسة في القرون الخالية ، والأمم البائدة ، ثم اعتصم في أحوالك كلها بأمر الله ، والوقوف عند محبته ، والعمل بشريعته وسنته ، وإقامة دينه ، وكتابه ، واجتنب ما فارق ذلك ، وخالف ما دعا إلى سخط الله - عز وجل - .
واعرف ما يجمع عمالك من الأموال ، وينفقون منها ، ولا تجمع حراما ، ولا تنفق إسرافا .
وأكثر مجالسة العلماء ومشاورتهم ، ومخالطتهم ، وليكن ( هواك اتباع السنن وإقامتها ، وإيثار مكارم الأمور ومعاليها ، وليكن ) أكرم دخلائك وخاصتك عليك من إذا رأى عيبا فيك لم تمنعه هيبتك من إنهاء ذلك إليك في سرك ، وإعلامك ما فيه من النقص ، فإن أولئك أنصح أوليائك ومظاهريك ، وانظر عمالك الذين بحضرتك ، وكتابك ، فوقت لكل رجل منهم في كل يوم وقتا يدخل فيه عليك بكتبه ومؤامرته ، وما عنده من حوائج عمالك ، وأمور كورك ورعيتك ، ثم فرغ لما يورده عليك من ذلك سمعك ، وبصرك ، وفهمك ، وعقلك ، وكرر النظر فيه والتدبر له ، فما كان موافقا للحق والحزم فأمضه ، واستخر الله - عز وجل - فيه ، وما كان مخالفا لذلك فاصرفه إلى التثبت فيه والمسألة عنه .
ولا تمتن على رعيتك ولا غيرهم بمعروف تأتيه إليهم ، ولا تقبل من أحد منهم إلا الوفاء والاستقامة ، والعون في أمور أمير المؤمنين ، ولا تضعن المعروف إلا على ذلك ، وتفهم كتابي إليك ، وأكثر النظر فيه والعمل به ، واستعن بالله على جميع أمورك ، واستخر ، فإن الله - عز وجل - مع الصلاح وأهله ، وليكن أعظم سيرتك ، وأفضل عيشك ما كان لله - عز وجل - رضى ، ولدينه نظاما ، ولأهله عزا وتمكينا ، وللذمة
[ ص: 527 ] وللملة عدلا وصلاحا ، وأنا أسأل الله أن يحسن عونك ، وتوفيقك ، ورشدك ، وكلاءتك . والسلام .
فلما رأى الناس هذا الكتاب تنازعوه ، وكتبوه ، وشاع أمره ، وبلغ
nindex.php?page=showalam&ids=15128المأمون خبره ، فدعا به فقرئ عليه ، فقال : ما بقى
أبو الطيب - يعني طاهرا - شيئا من أمر الدنيا والدين ، ( والتدبير ، والرأي ) ، والسياسة ، وإصلاح الملك والرعية ، وحفظ السلطان وطاعة الخلفاء ، وتقويم الخلافة - إلا وقد أحكمه ، وأوصى به . وأمر
nindex.php?page=showalam&ids=15128المأمون فكتب به إلى جميع العمال في النواحي ، فسار
عبد الله إلى عمله ، فاتبع ما أمر به وعهد إليه ، وسار بسيرته .
[ ص: 517 ] 206
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَمِائَتَيْنِ
ذِكْرُ
nindex.php?page=treesubj&link=33791وِلَايَةِ nindex.php?page=showalam&ids=16445عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ الرَّقَّةَ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلَّى
nindex.php?page=showalam&ids=15128الْمَأْمُونُ nindex.php?page=showalam&ids=16445عَبْدَ اللَّهِ بْنَ طَاهِرٍ مِنَ
الرَّقَّةِ إِلَى
مِصْرَ ، وَأَمَرَهُ بِحَرْبِ
نَصْرِ بْنِ شَبَثٍ .
وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ
nindex.php?page=showalam&ids=17335يَحْيَى بْنَ مُعَاذٍ الَّذِي كَانَ
nindex.php?page=showalam&ids=15128الْمَأْمُونُ وَلَّاهُ الْجَزِيرَةَ مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ ، وَاسْتَخْلَفَ ابْنَهُ
أَحْمَدَ ، فَاسْتَعْمَلَ
nindex.php?page=showalam&ids=15128الْمَأْمُونُ عَبْدَ اللَّهِ مَكَانَهُ ، فَلَمَّا أَرَادَ تَوْلِيَتَهُ أَحْضَرَهُ وَقَالَ لَهُ : يَا
عَبْدَ اللَّهِ ، أَسْتَخِيرُ اللَّهَ - تَعَالَى - مُنْذُ شَهْرٍ وَأَكْثَرَ ، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدْ خَارَ لِي ، وَرَأَيْتُ الرَّجُلَ يَصِفُ ابْنَهُ [ لِيُطْرِيَهُ ] لِرَأْيِهِ فِيهِ ، وَرَأَيْتُكَ فَوْقَ مَا قَالَ أَبُوكَ فِيكَ ، وَقَدْ مَاتَ
يَحْيَى ، وَاسْتَخْلَفَ ابْنَهُ ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ ، وَقَدْ رَأَيْتُ تَوْلِيَتَكَ
مِصْرَ ، وَمُحَارَبَةَ
نَصْرِ بْنِ شَبَثٍ .
فَقَالَ : السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ ، وَأَرْجُو أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْخَيْرَةَ وَلِلْمُسْلِمِينَ . فَعَقَدَ لَهُ .
وَقِيلَ : كَانَتْ وِلَايَتُهُ سَنَةَ خَمْسٍ وَمِائَتَيْنِ ، ( وَقِيلَ : سَبْعٍ وَمِائَتَيْنِ ) .
وَلَمَّا سَارَ اسْتَخْلَفَ عَلَى الشُّرْطَةِ
إِسْحَاقَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مُصْعَبٍ ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّهِ . وَلَمَّا اسْتَعْمَلَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=15128الْمَأْمُونُ كَتَبَ إِلَيْهِ أَبُوهُ
طَاهِرٌ كِتَابًا جَمَعَ فِيهِ كُلَّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْأُمَرَاءُ مِنَ الْآدَابِ وَالسِّيَاسَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَقَدْ أَثْبَتُّ مِنْهُ أَحْسَنَهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْآدَابِ وَالْحَثِّ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنِ الشِّيَمِ ، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ أَحَدٌ مِنْ مَلِكٍ وَسُوقَةٍ ، وَهُوَ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أَمَّا بَعْدُ ، فَعَلَيْكَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، وَخَشْيَتِهِ ، وَمُرَاقَبَتِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -
[ ص: 518 ] وَمُزَايَلَةِ سُخْطِهِ ، وَحِفْظِ رَعِيَّتِكَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، وَالْزَمْ مَا أَلْبَسَكَ مِنَ الْعَافِيَةِ بِالذِّكْرِ لِمَعَادِكَ ، وَمَا أَنْتَ صَائِرٌ إِلَيْهِ ، وَمَوْقُوفٌ عَلَيْهِ ، وَمَسْئُولٌ عَنْهُ ، وَالْعَمَلِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ بِمَا يَعْصِمُكَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - وَيُنَجِّيكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عِقَابِهِ ، وَأَلِيمِ عَذَابِهِ ، فَإِنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - قَدْ أَحْسَنَ إِلَيْكَ ، وَأَوْجَبَ عَلَيْكَ الرَّأْفَةَ بِمَنِ اسْتَرْعَاكَ أَمْرَهُمْ مِنْ عِبَادِهِ ، وَأَلْزَمَكَ الْعَدْلَ عَلَيْهِمْ ، وَالْقِيَامَ بِحَقِّهِ وَحُدُودِهِ فِيهِمْ ، وَالذَّبَّ عَنْهُمْ ، وَالدَّفْعَ عَنْ حَرِيمِهِمْ وَبَيْضَتِهِمْ ، وَالْحَقْنَ لِدِمَائِهِمْ ، وَالْأَمْنَ لِسَبِيلِهِمْ ، وَإِدْخَالَ الرَّاحَةِ عَلَيْهِمْ ، وَمُؤَاخِذُكَ بِمَا فَرَضَ عَلَيْكَ ، وَمُوقِفُكَ عَلَيْهِ ، وَمَسَائِلُكَ عَنْهُ ، وَمُثِيبُكَ عَلَيْهِ بِمَا قَدَّمْتَ وَأَخَّرْتَ ، فَفَرِّغْ لِذَلِكَ فَهْمَكَ ، وَعَقْلَكَ ، وَنَظَرَكَ ، وَلَا يَشْغَلْكَ عَنْهُ شَاغِلٌ ، وَإِنَّهُ رَأْسُ أَمْرِكَ ، وَمِلَاكُ شَأْنِكَ ، وَأَوَّلُ مَا يُوَفِّقُكَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - بِهِ لَرُشْدُكَ .
وَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تُلْزِمُ نَفْسَكَ ، وَتَنْسِبُ إِلَيْهِ أَفْعَالَكَ - الْمُوَاظَبَةُ عَلَى مَا افْتَرَضَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - عَلَيْكَ مِنَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ ، وَالْجَمَاعَةُ عَلَيْهَا بِالنَّاسِ ، فَأْتِ بِهَا فِي مَوَاقِيتِهَا عَلَى سُنَنِهَا ، وَفِي إِسْبَاغِ الْوُضُوءِ لَهَا ، وَافْتِتَاحِ ذِكْرِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - [ فِيهَا ] ، وَتَرَتَّلْ فِي قِرَاءَتِكَ ، وَتَمَكَّنْ فِي رُكُوعِكَ وَسُجُودِكَ وَتَشَهُّدِكَ ، وَلْيَصْدُقْ فِيهِ رَأْيُكَ وَنِيَّتُكَ ، وَاحْضُضْ عَلَيْهَا جَمَاعَةَ مَنْ مَعَكَ ، وَتَحْتَ يَدِكَ ، وَادْأَبْ عَلَيْهَا فَإِنَّهَا كَمَا قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - :
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=45إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ .
ثُمَّ أَتْبِعْ ذَلِكَ بِالْأَخْذِ بِسُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُثَابَرَةِ عَلَى خِلَافَتِهِ ، وَاقْتِفَاءِ آثَارِ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنْ بَعْدِهِ ، وَإِذَا وَرَدَ عَلَيْكَ أَمْرٌ فَاسْتَعِنْ عَلَيْهِ بِاسْتِخَارَةِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَتَقْوَاهُ ، وَلُزُومِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي كِتَابِهِ مِنْ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ ، وَحَلَالِهِ وَحَرَامِهِ ، وَإِتْمَامِ مَا جَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ قُمْ فِيهِ بِمَا يَحِقُّ لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -
[ ص: 519 ] عَلَيْكَ ، وَلَا تَمَلَّ مِنَ الْعَدْلِ فِيمَا أَحْبَبْتَ أَوْ كَرِهْتَ لِقَرِيبٍ مِنَ النَّاسِ ، أَوْ بِعِيدٍ .
وَآثِرِ الْفِقْهَ وَأَهْلَهُ وَالدِّينَ وَحَمَلَتَهُ ، وَكِتَابَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَالْعَامِلِينَ بِهِ ، فَإِنَّ أَفْضَلَ مَا تَزَيَّنَ بِهِ الْمَرْءُ الْفِقْهُ فِي الدِّينِ ، وَالطَّلَبُ لَهُ ، وَالْحَثُّ عَلَيْهِ ، وَالْمَعْرِفَةُ بِمَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فَإِنَّهُ الدَّلِيلُ عَلَى الْخَيْرِ كُلِّهِ ، وَالْقَائِدُ لَهُ ، وَالْآمِرُ بِهِ ، وَالنَّاهِي عَنِ الْمَعَاصِي وَالْمُوبِقَاتِ كُلِّهَا ، وَمَعَ تَوْفِيقِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - يَزْدَادُ الْعَبْدُ مَعْرِفَةً لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَإِجْلَالًا لَهُ ، ذِكْرًا لِلدَّرَجَاتِ الْعُلَى فِي الْمَعَادِ مَعَ مَا فِي ظُهُورِهِ لِلنَّاسِ مِنَ التَّوْقِيرِ لِأَمْرِكَ ، وَالْهَيْبَةِ لِسُلْطَانِكَ ، وَالْأَنَسَةِ بِكَ ، وَالثِّقَةِ بِعَدْلِكَ .
وَعَلَيْكَ بِالِاقْتِصَادِ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَبْيَنَ نَفْعًا ، وَلَا أَخَصَّ أَمْنًا ، وَلَا أَجْمَعَ فَضْلًا مِنْهُ ، وَالْقَصْدُ دَاعِيَةٌ إِلَى الرُّشْدِ ، وَالرُّشْدُ دَلِيلٌ عَلَى التَّوْفِيقِ ، وَالتَّوْفِيقُ قَائِدٌ إِلَى السَّعَادَةِ ، وَقِوَامُ الدِّينِ وَالسُّنَنِ الْهَادِيَةُ بِالِاقْتِصَادِ ، وَآثِرْهُ فِي دُنْيَاكَ كُلِّهَا ، وَلَا تُقَصِّرْ فِي طَلَبِ الْآخِرَةِ ، وَالْأَجْرِ ، وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ ، وَالسُّنَنِ الْمَعْرُوفَةِ ، وَمَعَالِمِ الرُّشْدِ ، وَلَا غَايَةَ لِلِاسْتِكْثَارِ فِي الْبِرِّ وَالسَّعْيِ لَهُ إِذَا كَانَ يُطْلَبُ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ - تَعَالَى - وَمَرْضَاتُهُ وَمُرَافَقَةُ أَوْلِيَائِهِ فِي دَارِ كَرَامَتِهِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَصْدَ فِي شَأْنِ الدُّنْيَا يُورِثُ الْعِزَّ ، وَيُحَصِّنُ مِنَ الذُّنُوبِ ، وَأَنَّهُ لَنْ تَحُوطَ لِنَفْسِكَ وَمَنْ يَلِيكَ وَلَا تَسْتَصْلِحُ أُمُورَكَ بِأَفْضَلَ مِنْهُ ، فَأْتِهِ وَاهْتَدِ بِهِ تَتِمَّ أُمُورُكَ ، وَتَزِدْ مَقْدِرَتُكَ ، وَتَصْلُحْ خَاصَّتُكَ وَعَامَّتُكَ .
وَأَحْسِنِ الظَّنَّ بِاللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - تَسْتَقِمْ لَكَ رَعِيَّتُكَ ، وَالْتَمِسِ الْوَسِيلَةَ إِلَيْهِ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا تَسْتَدِمْ بِهِ النِّعْمَةَ عَلَيْكَ .
وَلَا تَتَّهِمَنَّ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ فِيمَا تُوَلِّيهِ مِنْ عَمَلِكَ ، قَبْلَ أَنْ تَكْشِفَ أَمْرَهُ ، فَإِنَّ إِيقَاعَ التُّهَمِ بِالْبِرَاءِ وَالظُّنُونَ السَّيِّئَةَ بِهِمْ مَأْثَمٌ ، فَاجْعَلْ مِنْ شَأْنِكَ حُسْنَ الظَّنِّ بِأَصْحَابِكَ ، وَاطْرُدْ
[ ص: 520 ] عَنْكَ سُوءَ الظَّنِّ بِهِمْ ، وَارْفُضْهُ فِيهِمْ يُعِنْكَ ذَلِكَ عَلَى اصْطِنَاعِهِمْ وَرِيَاضَتِهِمْ ، وَلَا يَجِدَنَّ عَدُوُّ اللَّهِ الشَّيْطَانُ فِي أَمْرِكَ مَغْمَزًا ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَكْتَفِي بِالْقَلِيلِ مِنْ وَهَنِكَ ، وَيُدْخِلُ عَلَيْكَ مِنَ الْغَمِّ فِي سُوءِ الظَّنِّ مَا يُنَغِّصُكَ لَذَاذَةَ عَيْشِكَ .
وَاعْلَمْ أَنَّكَ تَجِدُ بِحُسْنِ الظَّنِّ قُوَّةً وَرَاحَةً ، وَتَكْتَفِي بِهِ مَا أَحْبَبْتَ كِفَايَتَهُ مِنْ أُمُورِكَ ، وَتَدْعُو بِهِ النَّاسَ إِلَى مَحَبَّتِكَ وَالِاسْتِقَامَةِ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا لَكَ ، وَلَايَمْنَعَنَّكَ حُسْنُ الظَّنِّ بِأَصْحَابِكَ ، وَالرَّأْفَةُ بِرَعِيَّتِكَ ، أَنْ تَسْتَعْمِلَ الْمَسْأَلَةَ وَالْبَحْثَ عَنْ أُمُورِكَ ، وَلْتَكُنِ الْمُبَاشَرَةُ لِأُمُورِ الْأَوْلِيَاءِ ، وَالْحِيَاطَةُ لِلرَّعِيَّةِ ، وَالنَّظَرُ فِيمَا يُقِيمُهَا وَيُصْلِحُهَا ، وَالنَّظَرُ فِي حَوَائِجِهِمْ ، وَحَمْلُ مَئُونَاتِهِمْ - آثَرُ عِنْدَكَ مِمَّا سِوَى ذَلِكَ ، فَإِنَّهُ أَقْوَمُ لِلدِّينِ ، وَأَحْيَا لِلسُّنَّةِ .
وَأَخْلِصْ نِيَّتَكَ فِي جَمِيعِ هَذَا ، وَتَفَرَّدْ بِتَقْوِيمِ نَفْسِكَ تَفَرُّدَ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ مَسْئُولٌ عَمَّا صَنَعَ ، وَمَجْزِيٌّ بِمَا أَحْسَنَ ، وَمَأْخُوذٌ بِمَا أَسَاءَ ، فَإِنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - جَعَلَ الدِّينَ حِرْزًا وَعِزًّا ، وَرَفَعَ مَنِ اتَّبَعَهُ وَعَزَّزَهُ ، فَاسْلُكْ بِمَنْ تَسُوسُهُ وَتَرْعَاهُ نَهْجَ الدِّينِ ، وَطَرِيقَةَ الْهُدَى .
وَأَقِمْ حُدُودَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي أَصْحَابِ الْجَرَائِمِ عَلَى قَدْرِ مَنَازِلِهِمْ ، وَمَا اسْتَحَقُّوهُ ، وَلَا تُعَطِّلْ ذَلِكَ ، وَلَا تَهَاوَنْ بِهِ ، وَلَا تُؤَخِّرْ عُقُوبَةَ أَهْلِ الْعُقُوبَةِ ، فَإِنَّ فِي تَفْرِيطِكَ فِي ذَلِكَ مَا يُفْسِدُ عَلَيْكَ حُسْنَ ظَنِّكِ ، وَاعْتَزِمْ عَلَى أَمْرِكَ فِي ذَلِكَ بِالسُّنَنِ الْمَعْرُوفَةِ ، وَجَانِبِ الْبِدَعَ وَالشُّبَهَاتِ يَسْلَمْ لَكَ دِينُكَ ، وَتَقُمْ لَكَ مُرُوءَتُكَ .
وَإِذَا عَاهَدْتَ عَهْدًا فَفِ بِهِ ، وَإِذَا وَعَدْتَ خَيْرًا فَأَنْجِزْهُ ، وَاقْبَلِ الْحَسَنَةَ وَادْفَعْ بِهَا ، وَأَغْمِضْ عَنْ عَيْبِ كُلِّ ذِي عَيْبٍ مِنْ رَعِيَّتِكَ ، وَاشْدُدْ لِسَانَكَ عَنْ قَوْلِ الْكَذِبِ وَالزُّورِ ، وَأَبْغِضْ أَهْلَهُ ، وَأَقْصِ أَهْلَ النَّمِيمَةِ ، فَإِنَّ أَوَّلَ فَسَادِ أُمُورِكَ ، فِي عَاجِلِهَا وَآجِلِهَا - تَقْرِيبُ الْكَذُوبِ ، وَالْجُرْأَةُ عَلَى الْكَذِبِ ; لِأَنَّ الْكَذِبَ رَأْسُ الْمَآثِمِ ، وَالزُّورَ وَالنَّمِيمَةَ خَاتِمَتُهَا ; لِأَنَّ النَّمِيمَةَ لَا يَسْلَمُ صَاحِبُهَا وَقَائِلُهَا ، وَلَا يَسْلَمُ لَهُ صَاحِبٌ ، وَلَا يَسْتَتِمُّ لِمُعْطِيهَا أَمْرٌ .
وَأَحِبَّ أَهْلَ الصَّلَاحِ وَالصِّدْقِ ، وَأَعِنِ الْأَشْرَافَ بِالْحَقِّ ، وَآسِ الضُّعَفَاءَ ، وَصِلِ
[ ص: 521 ] الرَّحِمَ ، وَابْتَغِ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ - تَعَالَى - وَإِعْزَازِ أَمْرِهِ ، وَالْتَمِسْ فِيهِ ثَوَابَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ ، وَاجْتَنِبْ سُوءَ الْأَهْوَاءِ وَالْجَوْرَ ، وَاصْرِفْ عَنْهُمَا رَأْيَكَ ، وَأَظْهِرْ بَرَاءَتَكَ مِنْ ذَلِكَ لِرَعِيَّتِكَ ، وَأَنْعِمْ بِالْعَدْلِ سِيَاسَتَهُمْ ، وَقُمْ بِالْحَقِّ فِيهِمْ وَبِالْمَعْرِفَةِ الَّتِي تَنْتَهِي بِكَ إِلَى سَبِيلِ الْهُدَى .
وَامْلِكْ نَفْسَكَ عِنْدَ الْغَضَبِ ، وَآثِرِ الْوَقَارَ وَالْحِلْمَ ، وَإِيَّاكَ وَالْحِدَّةَ وَالطِّيَرَةَ وَالْغُرُورَ فِيمَا أَنْتَ بِسَبِيلِهِ ، وَإِيَّاكَ أَنْ تَقُولَ : أَنَا مُسَلَّطٌ أَفْعَلُ مَا أَشَاءُ ، فَإِنَّ ذَلِكَ سَرِيعٌ [ فِيكَ ] إِلَى نَقْصِ الرَّأْيِ وَقِلَّةِ الْيَقِينِ بِاللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - .
وَأَخْلِصْ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ - النِّيَّةَ فِيهِ ، وَالْيَقِينَ بِهِ ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُلْكَ لِلَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ، وَيَنْزِعُهُ مِمَّنْ يَشَاءُ ، وَلَنْ تَجِدَ تَغَيُّرَ النِّعْمَةِ وَحُلُولَ النِّقْمَةِ إِلَى أَحَدٍ أَسْرَعَ مِنْهُ إِلَى حَمَلَةِ النِّعْمَةِ مِنْ أَصْحَابِ السُّلْطَانِ وَالْمَبْسُوطِ لَهُمْ فِي الدَّوْلَةِ ، إِذَا كَفَرُوا نِعَمَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَإِحْسَانَهُ ، وَاسْتَطَالُوا بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - مِنْ فَضْلِهِ .
وَدَعْ عَنْكَ نَفْسَكَ ، وَلْتَكُنْ ذَخَائِرُكَ وَكُنُوزُكَ الَّتِي تُدَّخَرُ وَتُكْنَزُ - الْبِرَّ ، وَالتَّقْوَى ، وَالْمَعْدَلَةَ ، وَاسْتِصْلَاحَ الرَّعِيَّةِ ، وَعِمَارَةَ بِلَادِهِمْ ، وَالتَّفَقُّدَ لِأُمُورِهِمْ ، وَالْحِفْظَ لِدِمَائِهِمْ ، وَالْإِغَاثَةَ لِمَلْهُوفِهِمْ ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَمْوَالَ إِذَا كُنِزَتْ وَذُخِرَتْ فِي الْخَزَائِنِ - لَا تَنْمُو ، وَإِذَا كَانَتْ فِي صَلَاحِ الرَّعِيَّةِ ، وَإِعْطَاءِ حُقُوقِهِمْ ، وَكَفِّ مَئُونَةٍ عَنْهُمْ - سَمَتْ ، وَزَكَتْ ، وَنَمَتْ ، وَصَلُحَتْ بِهِ الْعَامَّةُ ، وَتَزَيَّنَتْ بِهِ الْوِلَايَةُ ، وَطَابَ بِهِ الزَّمَانُ ، وَاعْتُقِدَ فِيهِ الْعِزُّ وَالْمَنَعَةُ ، فَلْيَكُنْ كَنْزُ خَزَائِنِكَ تَفْرِيقَ الْأَمْوَالِ فِي عِمَارَةِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ ، وَوَفِّرْ مِنْهُ عَلَى أَوْلِيَاءِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ، فَتِلْكَ حُقُوقُهُمْ ، وَأَوْفِ رَعِيَّتَكَ مِنْ ذَلِكَ حِصَصَهُمْ ، وَتَعَهَّدْ مَا يُصْلِحُ أُمُورَهُمْ وَمَعَاشَهُمْ ، فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَرَّتِ النِّعْمَةُ عَلَيْكَ ، وَاسْتَوْجَبْتَ الْمَزِيدَ مِنَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَكُنْتَ بِذَلِكَ عَلَى جِبَايَةِ خَرَاجِكَ ، وَجَمْعِ أَمْوَالِ رَعِيَّتِكَ ، وَعَمَلِكَ - أَقْدَرَ ، وَكَانَ الْجَمِيعُ لِمَا شَمَلَهُمْ مِنْ عَدْلِكَ وَإِحْسَانِكَ أَسْلَسَ لِطَاعَتِكَ ، وَأَطْيَبَ نَفْسًا بِكُلِّ مَا أَرَدْتَ ، وَاجْهِدْ نَفْسَكَ فِيمَا حَدَّدْتُ لَكَ فِي هَذَا الْبَابِ ، وَلْتَعْظُمْ حَسَنَتُكَ فِيهِ ، وَإِنَّمَا يَبْقَى مِنَ الْمَالِ مَا أُنْفِقَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَاعْرِفْ لِلشَّاكِرِينَ شُكْرَهُمْ ، وَأَثِبْهُمْ عَلَيْهِ .
وَإِيَّاكَ أَنْ تُنْسِيَكَ الدُّنْيَا وَغُرُورُهَا هَوْلَ الْآخِرَةِ ، فَتَتَهَاوَنُ بِمَا يَحِقُّ عَلَيْكَ ، فَإِنَّ
[ ص: 522 ] التَّهَاوُنَ يُورِثُ التَّفْرِيطَ ، وَالتَّفْرِيطُ يُورِثُ الْبَوَارَ ، وَلْيَكُنْ عَمَلُكَ لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَارْجُ الثَّوَابَ فِيهِ ، فَإِنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - قَدْ أَسْبَغَ عَلَيْكَ نِعْمَتَهُ ، وَأَسْبَغَ لَدَيْكَ فَضْلَهُ ، وَاعْتَصِمْ بِالشُّكْرِ ، وَعَلَيْهِ فَاعْتَمِدْ ، يَزِدْكَ اللَّهُ خَيْرًا وَإِحْسَانًا ، فَإِنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - يُثَبِّتُ شُكْرَ الشَّاكِرِينَ وَسِيرَةَ الْمُحْسِنِينَ .
وَلَا تَحْقِرَنَّ دَيْنًا ، وَلَا تُمَالِئَنَّ حَاسِدًا ، وَلَا تَرْحَمَنَّ فَاجِرًا ، وَلَا تَصِلَنَّ كَفُورًا ، وَلَا تُدَاهِنَنَّ عَدُوًّا ، وَلَا تُصَدِّقَنَّ نَمَّامًا ، وَلَا تَأْمَنَنَّ غَدَّارًا ، وَلَا تُوَالِيَنَّ فَاسِقًا ، وَلَا تَتْبَعَنَّ غَاوِيًا ، وَلَا تَحْمَدَنَّ مُرَائِيًا ، وَلَا تَحْقِرَنَّ إِنْسَانًا ، وَلَا تَرُدَّنَّ سَائِلًا فَقِيرًا ، وَلَا تُجِيبَنَّ بَاطِلًا ، وَلَا تُلَاحِظَنَّ مُضْحِكًا ، وَلَا تُخْلِفَنَّ وَعْدًا ، وَلَا تَرْهَبَنَّ فَجْرًا ، وَلَا تَرْكَبَنَّ سَفَهًا ، وَلَا تُظْهِرَنَّ غَضَبًا ، وَلَا تَمْشِيَنَّ مَرَحًا ، وَلَا تُفَرِّطَنَّ فِي طَلَبِ الْآخِرَةِ ، وَلَا تَدْفَعِ الْأَيَّامَ عِتَابًا ، وَلَا تُغْمِضَنَّ عَنْ ظَالِمٍ رَهْبَةً مِنْهُ ، أَوْ مُحَابَاةً ، وَلَا تَطْلُبَنَّ ثَوَابَ الْآخِرَةِ فِي الدُّنْيَا .
وَأَكْثِرْ مُشَاوَرَةَ الْفُقَهَاءِ ، وَاسْتَعْمِلْ نَفْسَكَ بِالْحِلْمِ ، وَخُذْ عَنْ أَهْلِ التَّجَارُبِ وَذَوِي الْعَقْلِ ، وَالرَّأْيِ ، وَالْحِكْمَةِ ، وَلَا تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ أَهْلَ الذِّمَّةِ وَالنِّحَلِ ، وَلَا تَسْمَعَنَّ لَهُمْ قَوْلًا ، فَإِنَّ ضَرَرَهُمْ أَكْثَرُ مِنْ مَنْفَعَتِهِمْ ، وَلَيْسَ شَيْءٌ أَسْرَعُ فَسَادًا لِمَا اسْتَقْبَلْتَ فِيهِ أَمْرَ رَعِيَّتِكَ مِنَ الشُّحِّ ، وَاعْلَمْ أَنَّكَ إِذَا كُنْتَ حَرِيصًا كُنْتَ كَثِيرَ الْأَخْذِ ، قَلِيلَ الْعَطِيَّةِ ، وَإِذَا كُنْتَ كَذَلِكَ لَمْ يَسْتَقِمْ لَكَ أَمْرُكَ إِلَّا قَلِيلًا ، فَإِنَّ رَعِيَّتَكَ إِنَّمَا تَعْقِدُ عَلَى مَحَبَّتِكَ بِالْكَفِّ عَنْ أَمْوَالِهِمْ ، وَتَرْكِ الْجَوْرِ عَلَيْهِمْ ، وَيَدُومُ صَفَاءُ أَوْلِيَائِكَ بِالْإِفْضَالِ عَلَيْهِمْ ، وَحُسْنِ الْعَطِيَّةِ لَهُمْ ، وَاجْتَنِبِ الشُّحَّ ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ أَوَّلُ مَا عَصَى الْإِنْسَانُ بِهِ رَبَّهُ ، وَأَنَّ الْعَاصِيَ بِمَنْزِلَةِ خِزْيٍ ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - :
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=9وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ .
وَاجْعَلْ لِلْمُسْلِمِينَ كُلِّهُمْ مِنْ نِيَّتِكَ حَظًّا وَنِصِيبًا ، وَأَيْقِنْ أَنَّ الْجُودَ مِنْ أَفْضَلِ أَعْمَالِ الْعِبَادِ ، فَاعْدُدْ لِنَفْسِكَ خُلُقًا ، وَسَهِّلْ طَرِيقَ الْجُودِ بِالْحَقِّ ، وَارْضَ بِهِ عَمَلًا وَمَذْهَبًا ، وَتَفَقَّدْ أُمُورَ الْجُنْدِ فِي دَوَاوِينِهِمْ ، وَمَكَاتِبِهِمْ ، وَادْرُرْ عَلَيْهِمْ أَرْزَاقَهُمْ ، وَوَسِّعْ عَلَيْهِمْ فِي مَعَايِشِهِمْ -
[ ص: 523 ] يُذْهِبِ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - بِذَلِكَ فَاقَتَهُمْ ، فَيَقْوَى لَكَ أَمْرُهُمْ ، وَتَزِيدُ بِهِ قُلُوبُهُمْ فِي طَاعَتِكَ فِي أَمْرِكَ خُلُوصًا وَانْشِرَاحًا .
وَحَسْبُ ذِي السُّلْطَانِ مِنَ السَّعَادَةِ أَنْ يَكُونَ عَلَى جُنْدِهِ وَرَعِيَّتِهِ رَحْمَةً فِي عَدْلِهِ ، وَحِيطَتِهِ وَإِنْصَافِهِ ، وَعِنَايَتِهِ وَشَفَقَتِهِ ، وَبِرِّهِ وَتَوْسِيعِهِ ، فَزَايِلْ مَكْرُوهَ إِحْدَى الْبَلِيَّتَيْنِ بِاسْتِشْعَارِ فَضِيلَةِ الْبَابِ الْآخَرِ ، وَلُزُومِ الْعَمَلِ بِهِ - تَلْقَ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - نَجَاحًا وَصَلَاحًا وَفَلَاحًا .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَضَاءَ [ بِالْعَدْلِ ] مِنَ اللَّهِ - تَعَالَى - بِالْمَكَانِ الَّذِي لَيْسَ [ يُعْدَلُ ] بِهِ شَيْءٌ مِنَ الْأُمُورِ ; لِأَنَّهُ مِيزَانُ اللَّهِ الَّذِي يُعْدَلُ عَلَيْهِ أَحْوَالُ النَّاسِ فِي الْأَرْضِ ، وَبِإِقَامَةِ الْعَدْلِ فِي الْقَضَاءِ ، وَالْعَمَلِ - تَصْلُحُ أَحْوَالُ الرَّعِيَّةِ ، وَتَأْمَنُ السُّبُلُ ، وَيَنْتَصِفُ الْمَظْلُومُ ، وَيَأْخُذُ النَّاسُ حُقُوقَهُمْ ، وَتَحْسُنُ الْمَعِيشَةُ ، وَيُؤَدَّى حَقُّ الطَّاعَةِ ، وَيَرْزُقُ اللَّهُ الْعَافِيَةَ وَالسَّلَامَةَ ، وَيَقُومُ الدِّينُ ، وَتَجْرِي السُّنَنُ وَالشَّرَائِعُ عَلَى مَجَارِيهَا .
وَاشْتَدَّ فِي أَمْرِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَتَوَرَّعْ عَنِ النُّطَفِ ، وَامْضِ لِإِقَامَةِ الْحُدُودِ ، وَأَقْلِلِ الْعَجَلَةَ ، وَابْعُدْ عَنِ الضَّجَرِ وَالْقَلَقِ ، وَاقْنَعْ بِالْقَسْمِ ، وَانْتَفِعْ بِتَجْرِبَتِكَ ، وَانْتَبِهْ فِي صَمْتِكَ ، وَاسْدُدْ فِي مَنْطِقِكَ ، وَأَنْصِفِ الْخَصْمَ ، وَقِفْ عِنْدَ الشُّبْهَةِ ، وَأَبْلِغْ فِي الْحُجَّةِ ، وَلَا يَأْخُذْكَ فِي أَحَدٍ مِنْ رَعِيَّتِكَ مُحَابَاةٌ وَلَا مُحَامَاةٌ ، وَلَا لَوْمُ لَائِمٍ ، وَتَثَبَّتْ ، وَتَأَنَّ ، وَرَاقِبْ ، وَانْظُرِ ( الْحَقَّ عَلَى نَفْسِكَ ) ، فَتَدَبَّرْ ، وَتَفَكَّرْ ، وَاعْتَبِرْ ، وَتَوَاضَعْ لِرَبِّكَ ، وَارْؤُفْ بِجَمِيعِ الرَّعِيَّةِ ، وَسَلِّطِ الْحَقَّ عَلَى نَفْسِكَ .
وَلَا تُسْرِعَنَّ إِلَى سَفْكِ دَمٍ ، فَإِنَّ الدِّمَاءَ مِنَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - بِمَكَانٍ عَظِيمٍ ، انْتِهَاكًا لَهَا بِغَيْرِ حَقِّهَا ، وَانْظُرْ هَذَا الْخَرَاجَ الَّذِي اسْتَقَامَتْ عَلَيْهِ الرَّعِيَّةُ ، وَجَعَلَهُ اللَّهُ لِلْإِسْلَامِ عِزًّا وَرِفْعَةً ، وَلِأَهْلِهِ تَوْسِعَةً وَمَنْعَةً ، وَلِعَدُوِّهِ وَعَدُوِّهِمْ كَبْتًا وَغَيْظًا ، وَلِأَهْلِ الْكُفْرِ مِنْ مُعَانِدِيهِمْ ذُلًّا وَصَغَارًا - فَوَزِّعْهُ بَيْنَ أَصْحَابِكَ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ ، وَالتَّسْوِيَةِ وَالْعُمُومِ فِيهِ ، وَلَا تَرْفَعَنَّ مِنْهُ
[ ص: 524 ] شَيْئًا عَنْ شَرِيفٍ لِشَرَفِهِ ، وَلَا عَنْ غَنِيٍّ لِغِنَاهُ ، وَلَا عَنْ كَاتِبٍ ، وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ خَاصَّتِكَ وَحَاشِيَتِكَ ، وَلَا تَأْخُذَنَّ مِنْهُ فَوْقَ الِاحْتِمَالِ لَهُ ، وَلَا تُكَلِّفْ أَمْرًا فِيهِ شَطَطٌ ، وَاحْمِلِ النَّاسَ كُلَّهُمْ عَلَى مُرِّ الْحَقِّ ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَجْمَعُ لِأُلْفَتِهِمْ ، وَأَلْزَمُ لِرِضَاءِ الْعَامَّةِ .
وَاعْلَمْ أَنَّكَ جُعِلْتَ بِوِلَايَتِكَ خَازِنًا ، وَحَافِظًا ، وَرَاعِيًا ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ أَهْلُ عَمَلِكَ رَعِيَّتَكَ لِأَنَّكَ رَاعِيهِمْ وَقَيِّمُهُمْ ، تَأْخُذُ مِنْهُمْ مَا أَعْطَوْكَ مِنْ عَفْوِهِمْ وَمَقْدِرَتِهِمْ ، وَتُنْفِقُهُ فِي قِوَامِ أَمْرِهِمْ وَصَلَاحِهِمْ ، وَتَقْوِيمِ أَوَدِهِمْ ، فَاسْتَعْمِلْ عَلَيْهِمْ ذَوِي الرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ ، وَالتَّجْرِبَةِ وَالْخِبْرَةِ بِالْعَمَلِ ، وَالْعِلْمِ بِالسِّيَاسَةِ وَالْعَفَافِ ، وَوَسِّعْ عَلَيْهِمْ فِي الرِّزْقِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْحُقُوقِ اللَّازِمَةِ لَكَ فِيمَا تَقَلَّدْتَ وَأُسْنِدَ إِلَيْكَ ، وَلَا يَشْغَلْكَ عَنْهُ شَاغِلٌ ، وَلَا يَصْرِفْكَ عَنْهُ صَارِفٌ ، فَإِنَّكَ مَتَى آثَرْتَهُ وَقُمْتَ فِيهِ بِالْوَاجِبِ ، اسْتَدْعَيْتَ بِهِ زِيَادَةَ النِّعْمَةِ مِنْ رَبِّكَ ، وَحُسْنَ الْأُحْدُوثَةِ فِي عَمَلِكَ ، وَاحْتَرَزْتَ بِهِ الْمَحَبَّةَ مِنْ رَعِيَّتِكَ ، وَأَعَنْتَ عَلَى الصَّلَاحِ ، وَقُدِّرَتِ الْخَيْرَاتُ فِي بَلَدِكَ ، وَفَشَتِ الْعِمَارَةُ بِنَاحِيَتِكَ ، وَظَهَرَ الْخِصْبُ فِي كُوَرِكَ ، وَكَثُرَ خَرَاجُكَ ، وَتَوَفَّرَتْ أَكْوَارُكَ ، وَقَوِيتَ بِذَلِكَ عَلَى ارْتِبَاطِ جُنْدِكَ ، وَإِرْضَاءِ الْعَامَّةِ ، بِإِفَاضَةِ الْعَطَاءِ فِيهِمْ مِنْ نَفْسِكَ ، وَكُنْتَ مَحْمُودَ السِّيَاسَةِ ، مَرْضِيَّ الْعَدْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَ عَدُوِّكَ ، وَكُنْتَ فِي أُمُورِكَ كُلِّهَا ذَا عَدْلٍ ، وَآلَةٍ ، وَقُوَّةٍ ، وَعُدَّةٍ ، فَنَافِسْ فِي ذَلِكَ وَلَا تُقَدِّمْ عَلَيْهِ شَيْئًا تُحْمَدْ مَغَبَّةُ أَمْرِكَ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - .
وَاجْعَلْ فِي كُلِّ كُورَةٍ مِنْ عَمَلِكَ أَمِينًا يُخْبِرُكَ أَخْبَارَ عُمَّالِكَ ، وَيَكْتُبُ إِلَيْكَ بِسِيرَتِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ ، حَتَّى كَأَنَّكَ مَعَ كُلِّ عَامِلٍ فِي عَمَلِهِ مُعَايِنٌ لِأُمُورِهِ كُلِّهَا ، فَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَأْمُرَهُمْ بِأَمْرٍ فَانْظُرْ فِي عَوَاقِبِ مَا أَرَدْتَ مِنْ ذَلِكَ ، فَإِنْ رَأَيْتَ السَّلَامَةَ فِيهِ وَالْعَافِيَةَ ، وَرَجَوْتَ فِيهِ حُسْنَ الدِّفَاعِ وَالصُّنْعِ - فَأَمْضِهِ ، وَإِلَّا فَتَوَقَّفْ عَنْهُ ، وَرَاجِعْ أَهْلَ الْبَصَرِ وَالْعِلْمِ بِهِ ، ثُمَّ خُذْ فِيهِ عُدَّتَهُ ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا نَظَرَ الرَّجُلُ فِي أَمْرٍ مِنْ أُمُورِهِ قَدْ وَاتَاهُ عَلَى مَا يَهْوَى ، فَأَغْوَاهُ ذَلِكَ وَأَعْجَبَهُ ، فَإِنْ لَمْ يَنْظُرْ فِي عَوَاقِبِهِ أَهْلَكَهُ ، وَنَقَضَ عَلَيْهِ أَمْرَهُ ، فَاسْتَعْمِلِ الْحَزْمَ فِي كُلِّ مَا أَرَدْتَ ، وَبَاشِرْهُ بَعْدَ عَوْنِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - بِالْقُوَّةِ ، وَأَكْثِرِ اسْتِخَارَةَ رَبِّكَ فِي جَمِيعِ أُمُورِكَ ، وَافْرُغْ مِنْ عَمَلِ يَوْمِكَ ، وَلَا تُؤَخِّرْهُ لِغَدِكَ ، وَأَكْثِرْ مُبَاشَرَتَهُ بِنَفْسِكَ ، فَإِنَّ لِغَدٍ أُمُورًا وَحَوَادِثَ تُلْهِيكَ عَنْ عَمَلِ يَوْمِكَ الَّذِي أَخَّرْتَ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْيَوْمَ إِذَا مَضَى ذَهَبَ بِمَا فِيهِ ، وَإِذَا أَخَّرْتَ عَمَلَهُ اجْتَمَعَ عَلَيْكَ أُمُورُ
[ ص: 525 ] يَوْمَيْنِ فَيَشْغَلُكَ ذَلِكَ ، حَتَّى تُعْرِضَ عَنْهُ ، وَإِذَا أَمْضَيْتَ لِكُلِّ يَوْمٍ عَمَلَهُ ، أَرَحْتَ نَفْسَكَ وَبَدَنَكَ ، وَأَحْكَمْتَ أُمُورَ سُلْطَانِكَ .
وَانْظُرْ أَحْرَارَ النَّاسِ وَذَوِي السِّنِّ مِنْهُمْ مِمَّنْ تَسْتَيْقِنُ صَفَاءَ طَوِيَّتَهُمْ ، وَشَهِدْتَ مَوَدَّتَهُمْ لَكَ ، وَمُظَاهَرَتَهُمْ بِالنُّصْحِ وَالْمُخَالَصَةِ عَلَى أَمْرِكَ - فَاسْتَخْلِصْهُمْ وَأَحْسِنْ إِلَيْهِمْ .
وَتَعَاهَدْ أَهْلَ الْبُيُوتَاتِ مِمَّنْ قَدْ دَخَلَتْ عَلَيْهِمُ الْحَاجَةُ ، فَاحْتَمِلْ مَئُونَتَهُمْ ، وَأَصْلِحْ حَالَهُمْ حَتَّى لَا يَجِدُوا لِخَلَّتِهِمْ مَسًّا ، وَأَفْرِدْ نَفْسَكَ بِالنَّظَرِ فِي أُمُورِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ، وَمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى رَفْعِ مَظْلَمَةٍ إِلَيْكَ ، وَالْمُحْتَقِرِ الَّذِي لَا عِلْمَ لَهُ بِطَلَبِ حَقِّهِ ، فَسَلْ عَنْهُ أَحْفَى مَسْأَلَةٍ ، وَوَكِّلْ بِأَمْثَالِهِ أَهْلَ الصَّلَاحِ مِنْ رَعِيَّتِكَ ، وَمُرْهُمْ بِرَفْعِ حَوَائِجِهِمْ وَحَالَاتِهِمْ إِلَيْكَ لِتَنْظُرَ فِيهَا بِمَا يُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ أَمْرَهُمْ .
وَتَعَاهَدْ ذَوِي الْبَأْسَاءِ وَأَيْتَامَهُمْ ، وَأَرَامِلَهُمْ ، وَاجْعَلْ لَهُمْ أَرْزَاقًا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ اقْتِدَاءً بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ - أَعَزَّهُ اللَّهُ - فِي الْعَطْفِ عَلَيْهِمْ ، وَالصِّلَةِ لَهُمْ ، لِيُصْلِحَ اللَّهُ بِذَلِكَ عَيْشَهُمْ ، وَيَرْزُقَكَ بِهِ بَرَكَةً وَزِيَادَةً ، وَأَجْرِ لِلْأَضْرَابِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ، وَقَدِّمْ حَمَلَةَ الْقُرْآنِ مِنْهُمْ ، وَالْحَافِظِينَ لِأَكْثَرِهِ فِي الْجَرَائِدِ عَلَى غَيْرِهِمْ ، وَانْصِبْ لِمَرْضَى الْمُسْلِمِينَ دُورًا تُؤْوِيهِمْ ، وَقُوَّامًا يَرْفُقُونَ بِهِمْ ، وَأَطِبَّاءَ يُعَالِجُونَ أَسْقَامَهُمْ ، وَأَسْعِفْهُمْ بِشَهَوَاتِهِمْ مَا لَمْ يُؤَدِّ ذَلِكَ إِلَى سَرَفٍ فِي بَيْتِ الْمَالِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ إِذَا أُعْطُوا حُقُوقَهُمْ وَأَفْضَلَ أَمَانِيهِمْ - لَمْ يُرْضِهِمْ ذَلِكَ ، وَلَمْ تَطِبْ أَنْفُسُهُمْ دُونَ رَفْعِ حَوَائِجِهِمْ إِلَى وُلَاتِهِمْ ، طَمَعًا فِي نَيْلِ الزِّيَادَةِ ، وَفَضْلِ الرِّفْقِ مِنْهُمْ ، وَرُبَّمَا تَبَرَّمَ الْمُتَصَفِّحُ لِأُمُورِ النَّاسِ لِكَثْرَةِ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ ، وَيَشْغَلُ فِكْرَهُ وَذِهْنَهُ مِنْهَا مَا يَنَالُهُ بِهِ مِنْ مَئُونَةٍ وَمَشَقَّةٍ ، وَلَيْسَ مَنْ يَرْغَبُ فِي الْعَدْلِ ، وَيَعْرِفُ مَحَاسِنَ أُمُورِهِ فِي الْعَاجِلِ وَفَضْلِ ثَوَابِ الْآجِلِ - كَالَّذِي يَسْتَثْقِلُ بِمَا يُقَرِّبُهُ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - وَيَلْتَمِسُ رَحْمَتَهُ .
وَأَكْثِرِ الْإِذْنَ لِلنَّاسِ عَلَيْكَ ، وَأَبْرِزْ لَهُمْ وَجْهَكَ ، وَسَكِّنْ لَهُمْ حَوَاسَّكَ ، وَاخْفِضْ
[ ص: 526 ] لَهُمْ جَنَاحَكَ ، وَأَظْهِرْ لَهُمْ بِشْرَكَ ، وَلِنْ لَهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ وَالْمَنْطِقِ ، وَاعْطِفْ عَلَيْهِمْ بِجُودِكَ وَفَضْلِكَ .
وَإِذَا أَعْطَيْتَ فَأَعْطِ بِسَمَاحَةٍ وَطِيبِ نَفْسٍ ، وَالْتِمَاسٍ لِلصَّنِيعَةِ وَالْأَجْرِ مِنْ غَيْرِ تَكْدِيرٍ وَلَا امْتِنَانٍ ، فَإِنَّ الْعَطِيَّةَ عَلَى ذَلِكَ تِجَارَةٌ مُرْبِحَةٌ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - .
وَاعْتَبِرْ بِمَا تَرَى مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا ، وَمَنْ مَضَى مِنْ أَهْلِ السُّلْطَانِ وَالرِّئَاسَةِ فِي الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ ، وَالْأُمَمِ الْبَائِدَةِ ، ثُمَّ اعْتَصِمْ فِي أَحْوَالِكَ كُلِّهَا بِأَمْرِ اللَّهِ ، وَالْوُقُوفِ عِنْدَ مَحَبَّتِهِ ، وَالْعَمَلِ بِشَرِيعَتِهِ وَسُنَّتِهِ ، وَإِقَامَةِ دِينِهِ ، وَكِتَابِهِ ، وَاجْتَنِبْ مَا فَارَقَ ذَلِكَ ، وَخَالِفْ مَا دَعَا إِلَى سُخْطِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - .
وَاعْرِفْ مَا يَجْمَعُ عُمَّالُكَ مِنَ الْأَمْوَالِ ، وَيُنْفِقُونَ مِنْهَا ، وَلَا تَجْمَعْ حَرَامًا ، وَلَا تُنْفِقْ إِسْرَافًا .
وَأَكْثِرْ مُجَالَسَةَ الْعُلَمَاءِ وَمُشَاوَرَتَهُمْ ، وَمُخَالَطَتَهُمْ ، وَلْيَكُنْ ( هَوَاكَ اتِّبَاعَ السُّنَنِ وَإِقَامَتَهَا ، وَإِيثَارَ مَكَارِمِ الْأُمُورِ وَمَعَالِيهَا ، وَلْيَكُنْ ) أَكْرَمُ دُخَلَائِكَ وَخَاصَّتِكَ عَلَيْكَ مَنْ إِذَا رَأَى عَيْبًا فِيكَ لَمْ تَمْنَعْهُ هَيْبَتُكَ مِنْ إِنْهَاءِ ذَلِكَ إِلَيْكَ فِي سِرِّكَ ، وَإِعْلَامِكَ مَا فِيهِ مِنَ النَّقْصِ ، فَإِنَّ أُولَئِكَ أَنْصَحُ أَوْلِيَائِكَ وَمُظَاهِرِيكَ ، وَانْظُرْ عُمَّالَكَ الَّذِينَ بِحَضْرَتِكَ ، وَكُتَّابَكَ ، فَوَقِّتْ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَقْتًا يَدْخُلُ فِيهِ عَلَيْكَ بِكُتُبِهِ وَمُؤَامَرَتِهِ ، وَمَا عِنْدَهُ مِنْ حَوَائِجِ عُمَّالِكَ ، وَأُمُورِ كُوَرِكَ وَرَعِيَّتِكَ ، ثُمَّ فَرِّغْ لِمَا يُورِدُهُ عَلَيْكَ مِنْ ذَلِكَ سَمْعَكَ ، وَبَصَرَكَ ، وَفَهْمَكَ ، وَعَقْلَكَ ، وَكَرِّرِ النَّظَرَ فِيهِ وَالتَّدَبُّرَ لَهُ ، فَمَا كَانَ مُوَافِقًا لِلْحَقِّ وَالْحَزْمِ فَأَمْضِهِ ، وَاسْتَخِرِ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - فِيهِ ، وَمَا كَانَ مُخَالِفًا لِذَلِكَ فَاصْرِفْهُ إِلَى التَّثَبُّتِ فِيهِ وَالْمَسْأَلَةِ عَنْهُ .
وَلَا تَمْتَنَّ عَلَى رَعِيَّتِكَ وَلَا غَيْرِهِمْ بِمَعْرُوفٍ تَأْتِيهِ إِلَيْهِمْ ، وَلَا تَقْبَلْ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ إِلَّا الْوَفَاءَ وَالِاسْتِقَامَةَ ، وَالْعَوْنَ فِي أُمُورِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَلَا تَضَعَنَّ الْمَعْرُوفَ إِلَّا عَلَى ذَلِكَ ، وَتَفَهَّمْ كِتَابِي إِلَيْكَ ، وَأَكْثِرِ النَّظَرَ فِيهِ وَالْعَمَلَ بِهِ ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ عَلَى جَمِيعِ أُمُورِكَ ، وَاسْتَخِرْ ، فَإِنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - مَعَ الصَّلَاحِ وَأَهْلِهِ ، وَلْيَكُنْ أَعْظَمَ سِيرَتِكَ ، وَأَفْضَلَ عَيْشِكَ مَا كَانَ لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - رِضًى ، وَلِدِينِهِ نِظَامًا ، وَلِأَهْلِهِ عِزًّا وَتَمْكِينًا ، وَلِلذِّمَّةِ
[ ص: 527 ] وَلِلْمِلَّةِ عَدْلًا وَصَلَاحًا ، وَأَنَا أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُحْسِنَ عَوْنَكَ ، وَتَوْفِيقَكَ ، وَرُشْدَكَ ، وَكَلَاءَتَكَ . وَالسَّلَامُ .
فَلَمَّا رَأَى النَّاسُ هَذَا الْكِتَابَ تَنَازَعُوهُ ، وَكَتَبُوهُ ، وَشَاعَ أَمْرُهُ ، وَبَلَغَ
nindex.php?page=showalam&ids=15128الْمَأْمُونَ خَبَرُهُ ، فَدَعَا بِهِ فَقُرِئَ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : مَا بَقَّى
أَبُو الطَّيِّبِ - يَعْنِي طَاهِرًا - شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ ، ( وَالتَّدْبِيرِ ، وَالرَّأْيِ ) ، وَالسِّيَاسَةِ ، وَإِصْلَاحِ الْمُلْكِ وَالرَّعِيَّةِ ، وَحِفْظِ السُّلْطَانِ وَطَاعَةِ الْخُلَفَاءِ ، وَتَقْوِيمِ الْخِلَافَةِ - إِلَّا وَقَدْ أَحْكَمَهُ ، وَأَوْصَى بِهِ . وَأَمَرَ
nindex.php?page=showalam&ids=15128الْمَأْمُونُ فَكُتِبَ بِهِ إِلَى جَمِيعِ الْعُمَّالِ فِي النَّوَاحِي ، فَسَارَ
عَبْدُ اللَّهِ إِلَى عَمَلِهِ ، فَاتَّبَعَ مَا أُمِرَ بِهِ وَعُهِدَ إِلَيْهِ ، وَسَارَ بِسِيرَتِهِ .